(أحمد شوقي \ راصد الخليج)
معظم الدول العربية وعلى مدار عقود طويلة، تمارس سياسة التضييق على الرأي العام، وخاصة في دول الخليج التي تتسم بالسلطة المطلقة وندرة وجود معارضة سياسية.
لكن من الغريب؛ بل والمستهجن أن تُقمع الأصوات المتعاطفة مع قضية فلسطين، وهي قضية العرب المركزية، خاصة في ظل هذه الحرب الإجرامية وجرائم الإبادة المرتكبة يوميًا، وبالأخص أنّ الدول الخليجية رسميا لا تستطيع حتى الآن تجاوز إعلان التعاطف والقلق وإدانة العدوان، حتى لو كان التعاطف من دون عمل والإدانة من دون استخدام أوراق للضغط.
لقد شكّلت المملكة العربية السعودية حالًا نموذجية لهذا القمع وتكميم الأفواه المناصرة لغزة. وفي مايو/أيار الماضي، قالت وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية في تقرير لها إن السلطات السعودية كثفت من عمليات الاعتقال بحق المواطنين بسبب منشورات على منصّات التواصل الاجتماعي ـمتعلقة بالحرب بين "إسرائيل" وحماس، حيث تقترب المملكة من تطبيع العلاقات مع "إسرائيل". وقد شملت هذه الاعتقالات مسؤولًا تنفيذيًا مع شركة تشارك في خطة التحول الاقتصادي لرؤية المملكة 2030 ، والتي هي حجر الزاوية في أجندة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفقًا لأشخاص داخل المملكة وخارجها وهم على دراية بهذه المسألة، وقالوا إن المحتجزين أعربوا عن آرائهم بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة.
يفيد التقرير عن إلقاء القبض أيضًا على شخصية إعلاميّة؛ قالت إنه لا ينبغي أبدًا مسامحة "إسرائيل"، وكذلك شخص آخر يدعو إلى مقاطعة مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية في المملكة. وقد اعترف شخص مطلع، له صلة بالحكومة السعودية بالاعتقالات وعزاها إلى ما أسماه مستوى عالٍ من اليقظة بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، ورغبة السلطات في ردع السعوديين عن الإدلاء ببيانات عبر الإنترنت عن الحرب التي قد تؤثر على الأمن القومي.
هذا؛ وبالرغم ممّا تشيعه السعودية من جو للتغيير وانفتاح على الحريات الشخصية، مثل حفلات الترفيه وتغييرات كبيرة طرأت على المجتمع السعودي المحافظ باتجاه وصفه الكثيرون بالانحلال، إلا أنّ هذه الحريات لم يكن لها صدى على مستوى حرية الرأي والتعبير.
إذ رصد تقرير لمنظمة الكرامة الحقوقية، في العام 2023، عدم وجود أي تغيير بالرغم من مظاهر الانفتاح على مستوى الحريات الشخصية التي يتبناها وليّ عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان منذ تولّيه مقاليد السلطة الفعلية في البلاد، حيث لم يطرأ أي تحسن في أوضاع حقوق الإنسان عامةً، بل تصاعدت حدة الانتهاكات وتوسّعت قائمة المحظورات لتشمل أي شكل من أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، حتى في ظل هذه الحرب العنيفة التي يشنّها الاحتلال على قطاع غزة. فقد وثقت المنظمة قيام السلطات السعودية على مدى سنوات باعتقال العديد من الأصوات المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، سواء من المواطنين السعوديين أم من جنسيات عربية أخرى.
كذلك استرشد التقرير بتصريح، على لسان رشيد مصلي مدير الكرامة، يقول نصًا: "إن إجراءات التضييق التي تمارسها الحكومات العربية عمومًا ضد الناشطين الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني آتت ثمارها على ما يبدو في خلق حالٍ من الخوف، فقد بدا من اللافت أنه بالرغم من المجازر المروّعة، خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، لم تشهد معظم العواصم العربية بوجهٍ عام حراكًا تضامنيًا على غرار ما كان يحدث في السابق".
كما تفيد مختلف التقارير أن السلطات السعودية تستخدم آليات مختلفة لرصد محتويات الإنترنت ومراقبتها مُستهدفة الأفراد ومنصّات تتحدى سلطتها أو تروّج لمشاهدة ما لا يصبّ في مصلحتها. إذ يعتمد الإطار التشريعي التقييدي في المملكة على عدة تشريعات رئيسة تعوّق التعبير عبر الإنترنت، بشكل جماعيّ، ومن أهمّها قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية وقانون مكافحة الإرهاب وقانون المطبوعات والنشر.
تمنح هذه القوانين، والتي غالبًا ما تكون تحت أحكام عامة وغامضة وتعريفات فضفاضة، صلاحيات واسعة للحكومة للسيطرة على المحتوى الرقمي، ويمكن التذرع بها بسهولة لتسويغ قمع المعارضة.
إذا ما سلّمنا بأنّ الأنظمة لها مصالحها وتحالفاتها وتوازناتها، فما المانع من الاستقواء بالشعوب ورأيها العام الضاغط كورقة مهمّة لخدمة السياسة المعلنة، والتي مفادها القلق من جرائم العدو وإدانتها والمناداة بوقف إطلاق النار، أم أن هذه السياسات كاذبة ومخادعة وتخشى السلطات من تفعيلها عبر رأي شعبي ضاغط؟!
إذا ما بدت الدول، وخاصة السعودية بما لها من وزن وخصوصية، وكأنّها مستسلمة للكيان الإسرائيلي رسميًا وشعبيًا، هل هذا يصبّ في مصلحة أمنها القومي؟
وكيف تعدّ إدانة "إسرائيل" وجرائمها خطرًا على الأمن القومي السعودي والعربي، إلا إذا تقاطع هذا الأمن مع أمن "إسرائيل"..
هذا؛ وهنا، الأمور تتخذ عناونين أخرى!