(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
قد يكون سؤال الساعة الوحيد، في المملكة العربية السعودية، هو سؤال "الأحوال المعيشية" التي تسوء يومًا بعد يوم، وصورة هذا السؤال هو: كيف ولماذا وأين وصلت موازنة أكبر منتج ومصدّر للبترول في العالم إلى المنطقة الحمراء –العجز- ثم قررت ألا تعود من هناك؟! خصوصًا في ظلّ الوضع الإقليمي المرشح للانفجار والصدامات المتفجرة على مدىطول العالم وعرضه، ولا تترك مجالًا للشكوك بشأن المستقبل، فهو غامض وكئيب، وتحملنا خطايانا مباشرة إلى الأطلال أو الأنقاض.
كل متابع مهتم بالخطاب الرسمي، في المملكة، يمكنه أن يجد فيه أي شيء إلا شيئًا واحدًا، وهو المواطن.. الحديث عن الاقتصاد يجري تلقينًا وفقًا للرواية الرسميّة للمملكة، ثم تجرّد إلى أرقام ونسب سنوية، وهي بحسب علم الاقتصاد يفقد أهم ما فيه وهو ارتباطه بالواقع وتعبيره عن الحقائق.
هذا بالطبع لا يجري مع الإعلام الذي يسيطر عليه أوهام "آل الترفيه" ومشروعاته الساذجة وتكاليفها الفادحة، وكأنّ ما يحكم المملكة حاليًا هو جو عام من التشوش والحيرة والتخبط والارتباك، يزيده موقف ولي العهد ابن سلمان بعد "طوفان الأقصى" انكشافًا وهلعًا، ومع أن السطح يبدو هادئًا، لكن ما تحته يمور بنيران القلق والكبت والغليان تأكل أعصاب الناس حتى النهاية.
من أين يأتي العجز السعودي الهائل في الموازنة؟
الإجابة جاءت، في أحدث تقارير لمعهد سيبري "SIPRI" لأبحاث السلام عن الإنفاق العالمي على السلاح، والصادر مع نهاية شهر آب 2024 المنصرم، ليكشف عن جملة مفاجآت تتعلق بصفقات التسلح العربية الهائلة، والتي تستعد لدخول مخازن الصدأ إلى جوار شقيقاتها، من دون أن يكون لها أثر فعلي أو عملي على قضايا الأمن والمصالح والعروبة والإسلام.
كشف التقرير أن المنطقة العربية قد استحوذت على 30% من إجمالي واردات السلاح العالمي، ووصلت مدفوعات العالم العربي إلى نحو 164 مليار دولار، أو ستة أضعاف ما ينفقه كيان العدو،والذي يخوض الحرب منذ 11 شهرًا. كما أن المملكة قد استطاعت حجز مقعد الريادة وقصب السبق في هذا الميدان الفريد، إذ تصدرت المملكة الدول العربية المشترية للأسلحة في السنوات الممتدة من 2019 إلى 2023، وجاءت في المرتبة الثانية عالميًا، ثم قطر في المرتبة الثالثة، ثم مصر المديونة في المرتبة السابعة.
بالطبع؛ تذهب الأموال العربية مباشرة إلى مصانع الغرب فتضيئها وشرايين اقتصاده فتنعشها، وإلى مفاصله فتعيد لها الكثير من القدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية. والولايات المتحدة هي اللص الأكبر في صناعة الموت والدمار، فهي تستحوذ على 42% من إجمالي صفقات التسلح العالمي، يليها بنسب أقل كثيرًا الرباعي: فرنسا ثم روسيا والصين وألمانيا، ثم إنّ 38% من صادرات السلاح الأميركي اتجهت إلى الشرق الأوسط، وبالطبع ابتلعت المملكة حصة 15% من صادرات السلاح الأميركي كله للمنطقة.
الأغرب من التقرير المعتاد؛ هو أن المملكة من المفترض أن تكون قد وضعت ضمن أولوياتها خطة لتوطين صناعة السلاح والصناعات الدفاعية المتطورة، وإنشاء قطاع صناعي وطني في مجال الدفاع يعني فرص عمل مباشر ووفير، يعني وقف نزيف الاستيراد السفيه، يعني مشروعًا وطنيًا يتمحور في الذات تحقيقًا للهوية وإشباعًا لرغبة الإنجاز، يعني أن هذا المجتمع قرر أن يبدأ في طور تحوّلٍ كيفيّ ونوعيّ من مستهلكٍ إلى مصنّع، كثيرة جدًا هي الرؤى عن ما ستحدثه ثورة إنتاج "سلاح" سعودي بيد سعودية.
لكن، بشكل عام، ارتفعت فاتورة السلاح السعودية في العام 2023، ووصلت إلى 75.8 مليار دولار، لتحتل المركز الأول في منطقة الشرق الأوسط في الإنفاق العسكري، وبعدها بكثير جدًا يحلّ كيان العدو في المركز الثاني بـ 27.5 مليار دولار، بينما لا تتجاوز فاتورة الدفاع 10.3% في إيران. وبشكل عام؛ المملكة تشكّل خامس أعلى دول العالم من حيث إنفاقها على التسلح بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند، لكنّ الفارق إنها تذهب لاستيراده من الخارج؛ بينما تصنع الدول الأربع سلاحها.
هناك نقطة أخيرة وفارقة في قصة فاتورة التسلح، وهي ما يُعرف بـ "العبء العسكري". وهو النسبة المئوية للإنفاق العسكري في دولة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس للتكلفة الاقتصادية النسبية للدفاع، في هذا المؤشر شديد الدلالة والخطورة حققت المملكة زيادة بنسبة 0.7% عن العام الذي سبقه، ليصل العبء العسكري في المملكة إلى 7.1% من ناتجها المحلي الإجمالي في العام 2023، والأكثر غرابة هو أن الإنفاق العسكري السعودي يبلغ 24% من الإنفاق العام، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى أوكرانيا التي تمزقها الحرب وعمدت في مواجهتها إلى حشد كل يمكنها للتسلح والدفاع.
ما الذي يخرج به أي إنسان لديه ذرة صدق أو شرف أو رؤية خاض تجربة معايشة "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة التي تشنّ على الشعب الفلسطيني، بالتأكيد سيلعن الأنظمة العربية التي تكدس السلاح الغربي في مخازنها، لكنها تتحارب ولا تحارب.. وإذا ما تعلق الأمر بإحدى أكثر القضايا الدينية والقومية إلهامًا وحساسية، فهي تطلق صواريخ الشجب وقنابل الإدانة وتشن غارات الاستنكار، وفي هذا الموضع بالذات؛ الدول العربية المطبّعة وغيرها تتساوى في السقوط الإخلاقي والقيمي والديني.