خاص الموقع

السعودية تخلع قيمها.. بلد الحرمين إلى أين؟

في 2024/09/12

(مبارك الفقيه \ راصد الخلج)   

"انتقلنا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في غمضة عين".. هكذا يصف أحد المختصّين في الشأن الاجتماعي ثورة التحوّلات الثقافية والسلوكية التي تشهدها المملكة العربية السعودية. إذ منذ العام 2017، وفي أقل من سنتين، انتقلت بلاد الحرمين الشريفين من قبلة للمسلمين ونموذج الدولة الحافظ للإرث الإسلامي إلى دولة "تكابد" للالتحاق بركب النموذج الغربي، ولتأخذ مكانًا لها في تصنيف الدول الأكثر رفاهية في العالم. وها هي اليوم، وبعد سبع سنوات من إعلان رؤية 2030 تأمل في أن تجتذب نحو مئة مليون سائح، لينعموا ببرامج التسلية والترفيه، ويطلعوا عن كثب على السعودية بثوبها الجديد.

لم تعد الإعلانات عن مواعيد الحفلات الغنائية العامة والمهرجانات الصاخبة تشكّل حدثًا مستغربًا في السعودية، فالأهم الآن هو ما تحتويه البرامج والفقرات وتفاصيل "مراسم الحج" إلى المرابع الليلية ومناسك الطواف، والتي قرّرها القيّمون على مهرجان "ميدل بيست"، ومن هم النجوم والنجمات الجدد في عالم الفن والغناء والرقص الذين سيحطّون رحالهم على أرض مكة المكرمة والمدينة المنوّرة.. وهنا نسأل: هل سيشهد هذا العام قدرًا إضافيًا أكبر من تخفيف القيود على الحضور المختلط والعري وتناول الكحول وتعاطي المخدرات على أنواعها؟! 

تجدر الإشارة إلى أنّ مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy) الأمريكية  قد كشفت أن السعودية تحوّلت إلى "عاصمة المخدرات في الشرق الاوسط، وأصبح تعاطي حبوب "الكبتاغون" شأنًا عاديًا داخل المملكة، وغالبية من يتعاطى المخدّرات تتراوح أعمارهم بين 12و 22 عامًا.

لا بد من الاعتراف أن ما حُقّق، خلال سبع سنوات من انقلاب شامل في الثقافة والسلوك، يعدّ إنجازًا ضخمًا وغير مسبوق، ولئن يسوّغ بعض المدافعين عن هذا الانقلاب سرعة التغيير إلى حال الكبت التاريخي التي كانت تطبق على المجتمع السعودي، فآخرون يردّون الأمر إلى التزام هذا المجتمع – وفقًا لتربيته الدينية وتنشئته الثقافية – بإطاعة أولي الأمر. إذ إنّ أيًا من الظواهر الحالية لم تكن لتتحقّق لولا إيعاز وتوجيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واتّساقًا مع اتجاهات والده الملك.

ممّا لا شك فيه أن السياق الراهن يؤشر إلى أن السعودية تتجه نحو مرحلة متقدّمة لإعادة صوغ هويتها الجديدة في الشكل والمضمون. ويجب ألا نغفل تأثر هذا السياق بالنموذج الغربي، حيث بدأت أولى إرهاصات انقلاب القيم الأخلاقية وتغيير النسق الاجتماعي في العالم بعد الحرب الكونية الثانية. آنذاك؛ عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استكمال مخطط هيمنتها على العالم، فبعد أن أنجزت مرحلة الإطباق الجيوستراتيجي على أوروبا المنشغلة بلملمة آثار الحرب، انتقلت إلى فرض نمط جديد حمل مجتمع الشباب الأمريكي رايته العريضة. إذ تشكّلت جماعات "الهيبيز" الرافضة للدين والمتمرّدة على القوالب الاجتماعية السائدة والمنادية بتقديس الحرية الفردية – وهي وفقًا للتجربة تعني تشريع الفوضى – ثم ما لبث أن انتشر هذا النمط في أوروبا، وبلغ أوجه خلال الستينيات من القرن الماضي مع ما عرف بـ" الثورة الجنسية".

لقد حمل النمط الغربي "الثوري" المستحدث عنوان الحداثة والتمدّن في وجهه السلوكي، والذي ركّز على تقوية النزعة الفردانية في إطار المجموعات البشرية. ولكنّ المشكلة الجوهرية، في هذا النمط، تمثّلت في تعزيز النزعة الهامشية عند الشباب من خلال الدعوة إلى إطلاق المكنونات الداخلية وتكريس ثقافة الترفيه وحب الحياة أسلوبًا علاجيًا للمشكلات والقضايا التي تواجه المجتمعات، ثم ترويج هذا النسق في المناطق والدول التي تعاني التخلّف الثقافي وترزح تحت نير النظمة الديكتاتورية، والمقصود هنا الأنظمة العربية والإسلامية.

قد يعترض البعض على مبدأ تكبير حجم المشكلة، ويضعه في إطار التطوّر المنطقي للسلوك الفردي مع طغيان الإنفوميديا وانهيار الحواجز المعرفية والعلاقاتية بين المجتمعات المختلفة؛ والسعودية ليست استثناءً في هذا المجال، بل هي تسير في سياقها الطبيعي نتيجة انسجام الطبقة الشعبية مع توجهات الطبقة الحاكمة لتنويع مصادر الدخل الاقتصادي وإخراج البلاد من قوقعة التشدّد الديني. ولا يمنع الانفتاح أن تبقى المملكة محجّة للمسلمين لأداء المناسك الدينية المعتادة في موسم الحج السنوي، وهو بالمناسبة، أيضًا، أحد أهم مصادر الدخل المالي، وأحد أشكال السياحة بمظلة دينية.

ما سبق من تسويغ قد يكون مقبولًا من حيث الشكل؛ لو أن المسألة بقيت في حدود الانفتاح الذي يحافظ على الثوابت والقيم. ولكن يبدو أن الأمور تتجه إلى مآلات خطرة تتجاوز العناوين السطحية والعامة لسياسة الانفتاح، وتتجه نحو ضرب الأسس الأخلاقية وتحريف القيم الدينية، ولا تقف عند قضية تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها وإسقاط "القيود التي كانت تكبّلها". فقد برزت مؤخرًا دعوات أطلقها عدد من "الدعاة" السعوديين تنادي بإنشاء مذهب إسلامي فقهي جديد – على غرار بدعة الديانة الإبراهيمية التي تسوّقها واشنطن لتسويغ سياسة التطبيع مع إسرائيل – يُسقط التبعية للمذاهب الإسلامية ويشرّع سياسات الانفتاح بذريعة التلاقي مع الثقافات والفنون الآتية من الغرب، بما تحمله من قيم "تحترم الآخر" وتكرّس الحريات الشخصية.

إن ما يحصل في المملكة هو انقلاب اجتماعي وثقافي؛ لا ينفصل عن السعي الغربي لتغيير وجه المنطقة في مجالي السياسة والاقتصاد. وهذا ينذر بعواقب وخيمة على الشباب ومستقبلهم، وعلى ما يشكّلونه من استثمار وطني وقومي وإسلامي، خصوصًا في ظل المساعي الحثيثة لترويج الشذوذ الجنسي وتشريع ما يسمى مجتمع "الميم" المنحرف. ولعلّ التركيز على السعودية لتحقيق هذا الانقلاب مؤسس على موقعها في منظومة الدول العربية والإسلامية، وما لها من أثر فاعل ومباشر في سوق هذه الدول إلى الحظيرة الأمريكية.. 

يبقى السؤال: هل تخلع السعودية قيمها، وتلحق بركب الانفلات الغربي أم ما يزال هناك قدر من الوعي لتدارك الخطر قبل الوقوع في الهاوية؟!