(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
"قد تنظر لما أنظر، ولكنك لا ترى ما أرى".. أرسطو.
الحقيقة الوحيدة في قصة "الفقاعة الترفيهية" والكروية خصوصًا، في المملكة العربية السعودية، هي أنّها تحركات حثيثة وجامحة ومتناقضة، بلا خطة كاملة، أو حتى شبه كاملة، لها أهداف واقعية تتحقق في توقيتات محددة ومعقولة، وبتقدير سليم للتكلفة والعائد، ولا تتمتع بالتوازن أو المرونة في تأخير أو وقف ما يظهر فورًا أنّها خطوات ثبت فشلها وعجزهاز كذلك الموضوع في التنسيق والمتابعة والحساب في الحالات المعدومة كلها، وهي أدوات مسؤولية وطنية لا يجوز الاستغناء عنها أو تهميشها..
المحصلة في النهاية؛ أن ما يجري في المملكة، وفي أي مشروع كبير أو صغير هو مجرد تصورات، بمعنى أدق هي أحلام، يضعها صاحب الأمر، ثم يترك للأخرين تنفيذها. لهذا؛ إدارة أي مؤسسة أو مشاريع لا تعرف شيئًا اسمه "التخطيط"، والمسؤولون والوزراء والمديرون لا يعرفون بالضبط ماذا يُراد منهم، ولا ماذا يفعلون، وإذا عرفوا وفعلوا؛ فهم لا يملكون تحقيقه، وليست لديهم صلاحيات سلطة أو وسائل وموارد ترجمة الهدف من حلم إلى واقع.
وقعت المملكة، خلال الأسبوعين الماضيين، في جملة من الخطايا. هي بالتأكيد ليس صدفةً ولا مؤامرة، هي حصاد الغباء الرسمي الفائق الحدود والتصور. فقد استمرت المملكة، ممثلة بهيئة الترفيه، في فكرتها الجنونية عن تغيير الصورة الذهنية للمملكة بصورة المملكة الجديدة التي غيّرت جلدها وصارت غربية الهوى والهويّة، عبر إنفاق مبالغ طائلة على "دوري روشن" لكرة القدم. لقد استمرت الأندية السعودية في محاولاتها المضنية لاستقطاب أشهر نجوم اللعبة، وبالرغم من فشلها في الوصول إلى أهدافها الرئيسة، مثل البرازيلي فينيسيوس جونيور لاعب ريال مدريد الإسباني الذي رفض عقدًا براتب مليار دولار في 5 سنوات، احتلت الأندية السعودية المكانة السادسة في صفقات اللاعبين الجدد بإنفاق 431 مليون دولار على الصفقات الجديدة، أي جاءت مباشرة بعد الدوريات الخمس الكبرى؛ وهي : إنجلترا 1.6 مليار دولار، إيطاليا 825 مليون دولار، وفرنسا 697 مليار دولار، وإسبانيا 599 مليار دولار، وأخيرًا ألمانيا 572 مليار دولار.
الحديث عن الصفقات، هنا، لا يشمل العقود الخيالية التي تضطر الأندية السعودية لتوقيعها لإقناع نجوم كرة القدم العالميين بترك ملاعب أوروبا؛ حيث الأضواء والشهرة والمجد. وبالرغم من عدم الإعلان والتكتم على بنود العقود والمكآفات الجنونية الضخمة، فإن إجمالي الإنفاق أو الالتزامات تفوق أربعة أضعاف الأرقام الرسمية، على الأقل.
هكذا يتصور "تركي آل ترفيه" أن بإمكانه تثبيت صورة جديدة للمملكة الجاذبة للنجوم، من الغناء إلى السينما إلى كرة القدم إلى المسرح.. وهو مجرد تصور أحمق مريض، ليس تخطيطًا جديدًا بقدر ما هو شذوذ فكري وخلل عقلي مزمن، المملكة لم تتحول بعد إنفاق مليار دولار في الميركاتو الصيفي الماضي، ثم نصف مليار آخر في الميركاتو الحالي، سوى إلى "أضحوكة" في صحف الرياضة العالمية، الجميع يتندّر بالتبذير والسفه وانعدام المسؤولية، وكأنّها "مزرعة" يفعل بها صاحبها ما يشاء.
كانت، هناك، إشارات عديدة في ما يخص مشروع "تحديث الدوري السعودي"، خصوصًا بعد التجربة المريرة في العام الماضي، فتقرير الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، يكشف أن الأندية الإنجليزية جمعت 1.25 مليار دولار، بفضل انتقالات دولية لـ523 لاعبًا، ثم فرنسا في المركز الثاني 756 مليون دولار، متقدمة على إسبانيا والبرتغال وألمانيا وإيطاليا. وجاءت البرازيل فقط خارج القارة العجوز بحلولها ثامنة 278 مليون دولار. هذه الإشارة كانت تستوجب أن نتوقف معها بالقدر الكافي، وكانت تستحق تساؤلات وإجابات قاطعة، كان بإمكانها أن تدق ومضة ضوء أحمر يصرخ وينبّه ويحذر، إنهم يستثمرون ويربحون من كرة القدم، بينما نحن عندنا لاعب القمار حين تجتمع عليه أثقال الخسارة ويحاول أن يغلبه بالخمر، لا يجني في النهاية إلا الخراب.
الأغرب من كل ما يجري؛ أنه يجري في مجتمع متعلّم يتعامل بشكل مبكر مع التكنولوجيا، ولديه مستوى تعليمي وتثقيفي راقِ جدًا. كثير جدًا من السعوديين يفهمون ويجيدون التعامل مع الصفقات والتداول والتوقعات الاقتصادية، ولدى المملكة أكبر نسبة من المستثمرين الصغار في الشرق الأوسط. هذا مع العلم أن الأنشطة التجارية والاقتصادية التي تُمارس بغرض الربح أصبحت جزءًا من الثقافة العادية للمواطن، خصوصًا جيل الشباب. إذ إنّ هؤلاء الشباب يعرفون أكثر من المسؤولين والوزراء والمستشارين الخائبين أن كل ما يجري مجرد "مخدر" للناس، يلهيهم عن واقعهم الحقيقي، عن طريق كرة القدم، أو أفيون الشعوب الحديث، وأن ما يقال عن "صورة ذهنية" للمملكة قد دُهست بالنعال، بواسطة فيلم "حياة الماعز"، وبتكلفة لا تتعدى 10 ملايين دولار!