(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يتفق الفلاسفة والقادة والكتّاب والزعماء وأصحاب الضمائر الحرّة أن آفة العقل البشري هي "الغباء"؛ وأن منبت كل شر هو "غبي" في موقع مسؤولية، فالإنسان الذكي أو العاقل يعلم أن الحياة تتسع للجميع، معارضين ومؤيدين، وأن مسرح الدنيا الكبير يمنح الكل فرصًا للظهور ونيل حظوظهم، مهما كانت هذه الأدوار بسيطة أو تافهة، أو عديمة التأثير. والقائد الكفء يستطيع أن يستوعب الجميع ضمن جهد يضع عنوان الصالح العام والانتقال إلى الأفضل مشروعًا وطنيًا له جاذبيته عند الجميع، وأولوية عند رجل الشارع البسيط حتى.
المتابع للشأن السعودي لن يحتاج لقدح ذهنه قليلًا أو كثيرًا في القضية الوطنية الأولى المطروحة حاليًا، وهي طبقًا لوكالة الأنباء الرسمية والصحف الحكومية "تطوير قطاع الصحة". إذ إنها تعني أكثر القطاعات حساسية واتصالًا، بشكل مباشر، بأعز ما يمتلك الإنسان نفسه، وفي أضعف حال يكون عليها المخلوق، وهو المرض، فكان من المفترض أن يكون الطرح العام للنقاش وليس لإملاء فرمانات فات زمنها وولى عهدها، أي مشروع وطني من دون إرادة حقيقية عند الناس سيفشل، مهما طال المدى، ومهما كانت الظروف لصالحه.
لكن قبل مناقشة ما نُشر وأثير، لا بد من العودة إلى الأصول، والأصول هنا هي أصول التفكير الحكومي التقليدي، وما أضيف عليه من تأثيرات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. إذ إن الجميع، حاكمًا وحكومة، يؤمنون أن مبعث كل تجديد أو إصلاح هو "صندوق النقد الدولي". وكما تسعى الدول العاجزة لتقارير جيدة منه لاستمرار فرص حصولها على القروض، فالسعودية تسعى لشهادات التقدير والجودة من مسؤوليه، سعيًا لتبييض وجه النظام الحاكم، ثم لتمريرها للداخل على إنها إنجازات حقيقية يعترف بها العالم ويقدرها.
ما يهمنا، هنا، أن الصندوق النقد الدولي لم يكن في يوم ناصح أمين لدولة أو لنظام حكم، وهنا يمكن العودة إلى كل التجارب التي جرت برعاية الصندوق، كلها انتهت بكوارث إنسانية، بعضها أضخم مما خلفته بعض الحروب، في روسيا ويوغوسلافيا السابقة ومصر والأرجنتين والصومال والسودان، في تونس والعراق والأردن، وكثير من الدول الآسيوية التي حظيت بمباركة الصندوق، فتقلبت على جمر الاحتجاجات الشعبية أو الفشل الكامل أو التقسيم.
لفهم دور الصندوق أو "فك أحجيته"، لا بد من الاستعانة باثنين من مديريه السابقين، الأول جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وما يقوله علنًا هو أن الصندوق يضع السياسات لضمان تحسين رفاهية الدول النامية، لكن الحقيقة الصندوق لا يشارك في مؤامرة؛ بل هو ببساطة يعكس مصالح وأيديولوجية المجمع المالي الغربي، خصوصًا في أميركا.
قريبًا من ذلك؛ يتحدث جون بيركنز، وهو صاحب الكتاب ذائع الصيت "اعترافات قرصان اقتصادي"، ويقول إن الصندوق ببساطة يمارس سياسات التكيف الهيكلي والتدخل الاقتصادي الكلي، ما يجعل الأوضاع الاقتصادية الصعبة أسوأ، وفي أحيان كثيرة تنقلب إلى كارثة، فحزمة "نصائحه الثابتة" لحكومات الجنوب هي: تخفيض الاقتراض الحكومي، وفرض ضرائب أعلى وإنفاق أقل. ذلك إلى جانب معدلات فائدة أعلى لتثبيت سعر صرف العملة عند مستوى معين. وكذا تصفية الشركات المتعثرة أو إشهار إفلاسها، وأخيرًا ما يهمنا في تلك القصة: "الخصخصة".
من الخصخصة ننطلق، بحسب البيانات المنشورة، عبر وكالة "واس" نصًا، بأن "المقام السامي وافق على العرض المرفوع من وزارة الصحة إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية والخاص بخصخصة المؤسسات الصحية. وأكدت وزارة الصحة أنها تستهدف التوسع في خصخصة الخدمات الحكومية، من خلال رفع مساهمة القطاع الخاص في الإنفاق على الرعاية الصحية من 25% إلى 35%، إلى جانب مصادر حكومية أخرى تحدثت لوسائل إعلام، وكشفت أن المخطط النهائي للمشروع يستهدف في المرحلة الأولى بيع أكثر من 1000 سرير في المستشفيات، و200 صيدلية، وأكثر من 20 مركزًا طبيًا في المملكة خلال مدة تترواح بين ثلاث وخمس السنوات المقبلة.
لكل مواطن الحق في الحصول على العلاج الصحي وفقًا لظروفه، والمملكة السعودية ليست دولة فقيرة لتترك أجساد أبنائها فريسة لمافيا الدواء والمرض العالمي. إذ يكفي فقط الحد من هدر المليارات على قطاعات الترفيه وصفقات التسلح المشبوهة لإعادة هيكلة هذا القطاع الحيوي في عام واحد، إن خلصت النيات لعمل وطني، لا يريد إلا كرامة المواطن في بلده، كرامته وقت أن يذله المرض ويعجزه، فهل نترك هذا البلد لسماسرة الغرب، يستنزفون مواردها وها هم يحاولون الإثراء الحرام من اللحم الحي، أم تكون للجميع وقفة أخيرة، ولو بعدها الطوفان!