علا عباس- الوطن السعودية-
بإعلان المملكة العربية السعودية عن رؤيتها لمستقبل اقتصادها ومجتمعها، يمكننا القول إن صفحة جديدة من تاريخ المنطقة قد تم فتحها، وسيبدأ السعوديون وباقي أبناء المنطقة العربية في الكتابة عليها، وافتتاح الصفحة الجديدة لا يتعلق فقط بالخطط الطموحة التي أعلن عنها ضمن الخطة، بل بالآثار الاجتماعية والثقافية التي ستنتج عن تطبيق الخطة.
فإعلان طرح نسبة من شركة أرامكو للاكتتاب العام، هو حدث مهم على الصعيد الاقتصادي، كما هو مهم على الصعيد المجتمعي، وحتى لو كانت النسبة المزمع طرحها للاكتتاب العام 5% من أسهم الشركة، فهي نسبة مهمة لأسباب عديدة، أولها: أن هذه النسبة كبيرة إذا ما قيست بقيمة الشركات والأسهم في دول المنطقة، بسبب الحجم الهائل لشركة أرامكو، والذي يفوق اقتصادات دول عديدة في المنطقة العربية، وامتلاك المواطنين السعوديين لـ5% من الشركة العملاقة الرائدة سيجعلهم شركاء في اقتصاد بلادهم وفي إدارة ثروته الأهم، ولا يخفى على أحد ما يمكن أن يولده هذا الحدث من آثار على الروابط بين المواطن والدولة، وبين المواطن وبين الخطط التنموية لحكومة بلاده.
والخطة الطموحة لزيادة عدد المعتمرين من 8 ملايين إلى 30 مليون معتمر سنويا، لن تتوقف آثاره على زيادة العوائد الاقتصادية، بل سيؤدي إلى نهضة هائلة في الاستثمارات الجانبية، وتوسعة كبيرة في المطارات والطرقات والفنادق والخدمات ومراكز التجارة التي سيحتاج إليها هذا العدد الكبير من الزوار للمملكة سنويا، وفوق ذلك سيكون لذلك أثر معنوي كبير على المسلمين في جميع أنحاء العالم، والذين ستتاح لهم زيارة المملكة والأماكن المقدسة، وستنشأ روابط جديدة ومتينة بين هؤلاء الزائرين وبين المملكة وأبنائها، وسيكون لذلك آثار ثقافية واقتصادية واجتماعية كبيرة، فكم من علاقات تجارية ستنشأ، وكم من صداقات ستولد، وكم من زيجات ومصاهرات ستحدث؟ وكم من تبادل للثقافات والمعارف سيحصل خلال هذه الزيارات، وضمن هذه الخطة الطموحة سيكون متاحا لكل مسلم في العالم أن يزور مقدساته مرة واحدة في الحياة على الأقل، وشيئا فشيئا، سيكون للسعودية أثر ما في نفس كل مسلم في العالم، ولن يكتفي بالسماع عنها أو رؤيتها على شاشة التلفزيون.
الصندوق السيادي الذي أعلن عنه، والذي سيكون الأكبر في العالم، لن يغير وجه الاقتصاد السعودي فقط، بل سيكون محركا للاقتصاد العالمي ككل، وسيكون اليد الاقتصادية الضاربة للممكلة العربية السعودية، وبالتأكيد ستمتد استثماراته إلى قارات الأرض الخمس، وسيسهم في تحقيق باقي بنود الخطة، لا سيما الجزء الطموح المتعلق برفع نسبة الصادرات غير النفطية إلى 50%، ورفع الإيرادات غير النفطية 6 أضعاف.
من جوانب الأهمية في هذه الخطة ـ الرؤية، توقيت إعلانها، فمع انخفاض أسعار النفط عالميا توقع المحللون والخبراء أن تنكفئ الدول النفطية -في مقدمتها السعودية- على نفسها، وتنتظر أن تتغير الظروف وتعود أسعار النفط للارتفاع، قبل أن تباشر بأي خطوة جديدة على جميع الصعد، وتوقع المحللون أن تتوقف الخطط التنموية والمشاريع الكبيرة، لكن السعودية فاجأت الجميع، وأعلنت عن خطة لا تأتي فقط مخالفة للتوقعات، بل جاءت تحديا لكل الظروف المحيطة، وبدت وكأنها استجابة عميقة لانخفاض أسعار النفط، أو بمعنى آخر، فإن انخفاض أسعار النفط لم يصب السعودية واقتصادها بالجمود، بل شكّل عامل تنبيه لها، لتبحث عن حلول طويلة المدى، وكأنها أردات أن تقول: لن أترك أسعار النفط تتحكم في مصيري، لقد كنّا قبل النفط، وسنبقى بعده، نحن نملكه، وليس هو من يملكنا.
حين كان النفط مرتفعا تسبب في حالة من "الإدمان النفطي"، حسب تعبير ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وحالة الإدمان أصابت الجميع، على اختلاف مستوياتهم، وتسببت في إضعاف روح المبادرة، وبالاسترخاء والتكاسل، وبالاتكال على الثروة التي منّ الله بها على المملكة، لكن مع تغير الظروف، شعرت القيادة أن الوقت حان ليستعيد المجتمع حيويته وقدرته على المبادرة، وليبدأ الشباب السعودي مساهمته الخلاقة في نهضة بلاده، وفي التخلص من "إدمانها النفطي".
وكالة "فرانس برس" وصفت الخطة بأنها أشبه بالحلم، وهذا كلام صحيح، هي خطة أشبه بالحلم، لكن كل الأشياء العظيمة في هذا العالم كانت في لحظة ما أشبه بالحلم.