طارق عبود- السفير اللبنانية-
تمرّ الدول والكيانات بمفاصل تاريخية حسّاسة قد تبدّل في حساباتها الموضوعة مسبقًا، أو يتحكّم المتغيِّر الطارئ بالمسار المرسوم، فيراكمُ الوضعُ الجديدُ تعقيداتٍ في مشهدية الكيان، ما يفرض تساؤلات ملحّة، تحتاج إلى إجابات قاطعة قد لا تكون متوفرة، وهذا بدوره يدفع المسؤولين إلى التفكير باجتراح حلول قد تكون مفيدة، وقد لا تكون، ما يولّد اختلالات في بنية النظام قد تودي إلى المهالك. لعلّ ما تمرّ به المملكة السعودية هذه الأيام يشفّ في جانب منه عن هذه الحقيقة.
حضرتني في الأيام الماضية، الرواية الملحمية «مدن الملح» للكاتب الكبير الراحل عبد الرحمن منيف، وتذكرتُ «متعب الهذّال» الشخصية البدوية البسيطة، المقتلَع من أرضه مع أهله وشجره وذكرياته، يراقب المشهد من بعيد، صارخًا: «لا تخافوا... لا تخافوا من اللي تشوفوه هالحين... الخوف من الجايات».
ثمة تساؤلات وتحديات حاضرة تحيل المتابع إلى أسئلة شتى، منها: هل تعيش المملكة إرهاصات الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الكبرى، عقب تبنيها مشروع تخفيض اسعار النفط، وعدم قبولها بتنظيم الإنتاج بما يتناسب مع العرض والطلب، ما يحافظ على أسعار مقبولة ومنافسة في السوق النفطية العالمية؟ الإشكالية هذه ترتبط باكتشاف النفط الصخري، وهو ما أدى إلى انهيارات كبيرة في مداخيل دول نفطية عديدة، في طليعتها فنزويلا التي كانت الضحية الأولى في هذه الحرب، ولم تسلم منها إيران وروسيا والجزائر، ولا السعودية نفسها. وقد أثّر بشكل كبير في اقتصادها القائم بشكل رئيس على هذا العنصر الحيوي، علماً أنه أضيف إلى الإنفاق الكبير في الخارج وفي الداخل، مع المحافظة على المستوى نفسه من التسلّح، الذي تشغل فيه السعودية المرتبة الثالثة في العالم، والذي يقضم مساحة معتبرة من الموازنة.
لم تكتفِ الإدارات الحديثة للمملكة بهذا القدر من المغامرة، وهي التي كانت حذرة على مدى عقود طويلة في خطابها السياسي حتى مع الخصوم. لكنها اختارت مؤخرًا سبيل المواجهة المفتوحة مع الجميع، باستثناء الكيان الإسرائيلي. فجنحت نحو خلق التوتر مع المحيط ومع الحلفاء (الولايات المتحدة)، وقررت الانخراط في حروبٍ عديدة، من اليمن إلى سوريا والبحرين، بالإضافة الى بصماتها الواضحة في المشهد العراقي الدامي، والوقوف بشكلٍ واضح بوجه حكم الإخوان المسلمين في مصر، ومن ثم إسقاطه، ناهيك عن التشنج الذي أحدثته مواقفها السلبية تجاه المقاومة في لبنان، والموقف الأخير من الجزائر.
هذه المشهدية المتوترة التي قررت السعودية تصدّرها، كانت فاتورتها مئات مليارات الدولارات، ما أحدث ارتدادات زلزالية على الوضعين الاقتصادي والسياسي.
من هنا شكّل مشروع «رؤية المملكة 2030» الذي تبنّته الحكومة، وتولّى تظهيره ولي ولي العهد وزير الدفاع والملك غير المتوّج محمد بن سلمان، الذي خرج على الإعلام للتسويق للرؤية الجديدة، محاولة إنقاذية، وانعطافة في المسار العام للمملكة للسعودية.
تتصدّر هذه الرؤية شعارات كبرى، تطمح إلى القفز بالسعودية من زمن حاضر، على تعالق متين بالماضي الذي يثقل مسيرة النظام والمجتمع، إلى حاضرٍ يعيشه المواطن، ولكنه لا يتماهى معه، والتطلّع إلى زمن مرتجى ومأمول ينفتح على العالم. لكن هذا يواجه عقباتٍ جسيمة لجملة من الأسباب التي تشدّه إلى الوراء، ثقافية كانت أو اجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها. فهل أصبحت السعودية جاهزة لإزالة هذه العقبات؟
تأتي في مقدمة هذه العوائق، المفاهيم العقدية والدينية والتاريخية الموروثة التي تفرضها المؤسسة الدينية، المتحالفة مع المؤسسة السياسية، عبر ممارسات وسلوكيات تحيّد المملكة عن الحاضر ومؤثراته.
تحدّث ولي ولي العهد عن نقلة نوعية حضارية وثقافية طموحة، قد تكون دافعًا للسيّاح إلى زيارة المملكة، واعترف «بوجود شحّ في الخدمات الثقافية برغم وجود حضارات مندثرة منذ آلآف السنين، يجب استغلالها، مؤكّدًا فتح المجال للسياحة لجميع الجنسيات، بما يتوافق مع قيم المملكة ومعتقداتها».
يعني ما تقدّم، إذا ما اقترن القول بالفعل، تحطيم تابوهاتٍ فولاذية رافضة كلّ شيء يتعلّق بالتاريخ ويدلّ عليه. وهو إعلان تحجيم لدور المؤسسة الوهابية، مراعاة لدفتر الشروط الأميركية، إضافة إلى التعديل في المناهج الدراسية، وهي كانت مطالب تزامنت مع أحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001.
والشاهد اليتيم الذي سنسوقه، لضيق المجال، هو المكان الذي نزل فيه الوحي على رسول الله (ص) في غار حراء، واستمع فيه إلى أولى آياته، هو اليوم، مكانٌ مهجور ومهمل، ويصل الأمر بسلطة المطاوعة إلى الكتابة على لوحة حديدية كبيرة على قدم الجبل، تنهى فيه عن زيارة هذا المكان، وتحسب ذلك بدعة، على الناس الكفّ عنها، مع ما يحتشد في المكان من رمزية تاريخية وإنسانية وحضارية كبيرة مثقلة بالدلالات، ليس عند المسلمين فقط، بل عند كل المهتمين بالأحداث التاريخية.
فهل ستخضع السلطات الدينية وتساوم على معتقدها، فتقبل بإعادة بناء المراقد والمساجد والأمكنة التاريخية، التي هُدّمت وتمّ تضييع أثرها، لاعتقاد الفكر الوهابي بحرمة بقائها، فضلًا عن زيارتها؟ وقد يكون السؤال الأبسط هو، ماذا بقي من التاريخ الإسلامي وما قبله، غير الكعبة وقبر النبي محمد(ص)، حتى يعوّل على تنشيط هذا المرفق الذي تقوم عليه اقتصادات دول عديدة. وهل سترضى ببناء المتاحف التي تُحسبُ ركيزة رئيسة في السياحة الدينية؟ أم سيكون لهذه السلطة رأيٌ آخر ما قد يحدث معركةً شرسة بين السلطتين؟
ظهر في المقابلة أنّ «الأمير» والمملكة يقفان على مفترق طرق، فهو ينظر الى القادم من الزمن الذي يسعى فيه إلى استلام الحكم، والخوض في عصر العولمة وثورة التكنولوجيا والاتصالات ومنح المرأة بعضًا من حقوقها، والانفتاح على الخارج، مع احتمال معارضة قوية من المؤسسة الدينية، وفي الوقت نفسه يمارس عبر سلطته، سلوكًا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، إذا لم يتم تداركه، قد يسبب أذى بالغاً للمملكة سياسياً واقتصادياً.
وإذا ما أخفقت هذه الرؤية، القائمة في جزء وازنٍ منها على تحويل جزء من أصول الأموال السعودية، لا سيما درّة الاقتصاد المتمثّل بشركة «أرامكو» الى استثمار غير مضمون النتائج، وغيرها من العوامل التي عرّج عليها وزير الدفاع السعودي في مقابلته، إضافة إلى العجز الكبير في الموازنة، وما ورد أعلاه؛ فقد تكون النتائج القادمة كارثية.
نعود إلى «مدن الملح»، «وكأني بطيف «متعب الهذّال» يحوم فوق نجد والحجاز، يراقب حال البلاد. هذا البدويّ الذي عاش في ظلال النخيل في واحة «وادي العيون» التي كانت تفيض ماءً وجمالًا في وسط الصحراء القاحلة، وامتطى ناقته واختفى، بعد إطلاقه النار على مهندسي النفط الأميركيين الذين أحلّوا الخراب في الوادي، وشوهوا هيئة المكان، سوف يعودُ أحفادُه من التيه، ليبنوا قريته بعد ذوبان مدن الملح التي أنشأها النفط ورجاله.