أثناء حديثه خلال اجتماع منظمة الدول المصدرة للبترول، أوبك، في ديسمبر/كانون الأول عام 2013، حذر وزير النفط السعودي السابق «علي النعيمي» من تداعيات تعهد إيران بالعودة لإنتاج أربعة ملايين برميل يوميا من النفط محذرا من أسعار النفط سوف تصل إلى مستوى 20 دولارا للبرميل الواحد. وتوقع «النعيمي» أن هذا المستوى المتدني للأسعار سوف يتسبب في إنهاء طفرة الإنتاج من قبل المنتجين غير التقليديين مثل الصخر الزيتي ونفط الرمال.
وعلى الرغم من نوايا تحطيم السوق قبل ثلاثة أعوام، فإن إيران كان عليها أن تنتظر حتى تخفيف العقوبات عنها بفعل الصفقة النووية التي تم التوصل إليها خلال العام الماضي من أجل متابعة إنتاجها السابق. في غضون ذلك، أثبت السعوديون مهارة كبيرة في دفع الأسعار نحو الانخفاض من خلال منظمة أوبك استجابة لارتفاع الإنتاج من قبل المنتجين غير التقليديين في أمريكا الشمالية في محاولة لدفع هؤلاء المنتجين مرتفعي التكلفة نحو الإفلاس. وفي فبراير/شباط من هذا العام تحدث «النعيمي» حول وصول الأسعار إلى مستوى 20 دولارا للبرميل على أنه إمكانية واضحة دون النظر في أن ذلك قد يتسبب في الإضرار بعدد غير قليل من زملائه الأعضاء في أوبك.
يبدو هذا السياق التاريخي مفيدا حين نكون نتعامل مع نظام غير شفاف ولكنه في ذات الوقت يسعى إلى مصلحته الذاتية كما هو الحال في الرياض. في تجمع أوبك الأخير، في فيينا الأسبوع الماضي، حاول وزير نفطها الجديد «خالد الفالح» استعادة دور الموفق مشيرا إلى أن السعوديين أدركوا «أن طول وقت انخفاض الأسعار لا يحقق ما يكفي من الإمدادات لتلبية الارتفاع في الطلب». وجاء ذلك بعد فشلت المنظمة مرة أخرى في الاتفاق على خفض الإنتاج، ما دفع قدرا من الضغط الهبوطي على الأسعار. وكانت الأسعار قد انتعشت في الآونة الأخيرة إلى مستوى حوالي 50 دولارا للبرميل وذلك بسبب عوامل خارجة عن سيطرة السعودية، مثل حرائق الغابات الكندية وعدم الاستقرار في نيجيريا.
استقرار الأسعار قد يمثل اختبارا حقيقية لاستراتيجية السعودية في المستقبل، على الرغم من وجود سبب وجيه في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأن سياسة الحفاظ على العرض المرتفع قد تم التخلي عنها أو تم تعديلها لجعل المملكة مستفيدة من السعر أكثر من كونها صانعة له. وعلى الرغم من سعيه لتخفيف حدة رسالة الأمير «محمد بن سلمان» خلال الأسبوع الماضي، فإن سياسة «الفالح» في أوبك سوف تستمر في اتباع توجيهات نجل العاهل السعودي والذي تتطلب رؤيته لعصر ما بعد النفط تعظيم العوائد النفطية في فترة قصيرة من الوقت دون إبداء اهتمام يذكر بالمنتجين الآخرين أو بحركة السوق نفسها. هذه المقامرة سوف يكون لها تداعيات هائلة أكبر مما نشعر به بالفعل. ومن المؤكد أنها سوف تضع حدا لأي أفكار حول فك الارتباط الغربي عن السياسة التي يحكمها النفط في الشرق الأوسط.
نهاية أوبك وما بعدها
ويأتي هذا الشعور بالنصر الذي أظهرته أوبك في فيينا ليتناقض بشكل صارخ مع المزاج السائد داخل المنظمة في أبريل/نيسان في الدوحة. خلال هذا الاجتماع الأخير، رفضت الرياض المضي قدما في خطط تجميد الإنتاج عند مستويات يناير/كانون الثاني عام 2016 وفق اتفاقها السابق مع روسيا. ويعزى ذلك إلى استبعاد إيران من الاتفاق، في الوقت الذي تسعى فيه إلى استعادة مستويات إنتاجها إلى مرحلة ما قبل العقوبات، ولكن مع فرص أكبر للنجاح في هذه المرة. بعد هذه الجولة، كانت الملاحظة الأكثر شيوعا هي أن السعوديين يسرعون من وفاة أوبك. ومن المرجح أن هذا التقييم لا يخلو من دقة، كما أنه يتوافق مع وجهة نظر «إيغور سيتشن»، وهو مستشار لـ«فلاديمير بوتين»، والذي أكد أن المجموعة قد توقفت عن التعامل بوصفها منظمة واحدة.
«سوزان مالوني»، نائب مدير السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، وصفت اجتماع الدوحة بأنه «محاولة فاشلة من السعودية لوقف الانخفاض الحاد في أسعار النفط». بعض المراقبين الذين تحدثت إليهم ينظرون إلى الأمر بصورة مختلفة تماما. حيث أكدوا أن السعوديين لم يكونوا في أي وقت راغبين في الحد من الإنتاج وبشكل خاص الأمير «محمد بن سلمان». وفق القراءة الأكثر ميكافيللية، فإن الأمير قد كان متأكدا أن إيران سوف ترفض الاقتراح المعروض، وقد استخدم ذلك من أجل تأكيد سلطته في السوق. وباختصار فإن الرياض لم تكن لتخسر شيئا بوصم منافستها على أنها من تعرقل جهود الاتفاق، في الوقت الذي تواصل فيه دفع أجندتها الخاصة.
الرواية الأحدث حول وفاة أوبك هي في واقع الأمر انعكاس لأحد أكثر الروايات شعبية خلال السنوات الماضية. زوال المنظمة سوف يمثل النهاية الفعلية للنفوذ السعودي مع الارتفاع في معدلات الإنتاج غير التقليدي من قبل الولايات المتحدة وكندا وتضاؤل أهمية منطقة الشرق الأوسط. بالنسبة إلى معظم المراقبين الطوباويين، فإن مثل هذا التحول سوف يكون إيذانا بنهاية الدور العالمي الضخم للمنطقة وسياسة التدليل الغربية لأنظمتها السلطوية.
كانت هناك بالتأكيد دلائل على أن قيمة نفط الشرق الأوسط، والتأثيرات المرتبطة به، قد تغيرت بالفعل بعد تقلبات الأسعار في الآونة الأخيرة. الاتفاق النووي الإيراني على سبيل المثال قد تم التوصل إليه رغم الاعتراضات السعودية الحازمة، وكذلك موافقة الكونغرس على منح ضحايا 11 سبتمبر/أيلول حق مقاضاة الرياض لتورطها في تلك الهجمات. كما صار هناك مستوى أكبر من التدقيق في صفقات الأسلحة الموجهة إلى السعودية من الولايات المتحدة وأوروبا.
الذكرى المئوية لاتفاق «سايكس بيكو» التي مرت مؤخرا قد أثارت ملاحظات مماثلة: خلال مقاربة «راشيل هافريلوك» من جامعة إلينوى، تم التأكيد على أن ترسيم الحدود كان مبنية على المصالح في نفط الشرق الأوسط أكثر من كونه ترسيما تعسفيا للحدود بعد انهيار الدولة العثمانية. كما أكدت أن جعل ملكيات النفط أكثر محلية من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الاستقرار والازدهار في المنطقة.
بالنسبة للبعض، فإن انهيار هياكل القوى التي طالما ظلت سائدة خلال القرن العشرين في الشرق الأوسط، تزامنا مع تناقص شعبيتها لدى شعوبها ولدى الغرب أيضا، هو مؤشر على تناقص قدرة السعودية في الحفاظ على الشرعية السياسية محليا في ظل تناقص أسعار النفط. حققت المملكة عجزا كبيرا بقيمة 98 مليار دولار في موازنتها لعام 2015، مما دفع صندوق النقد الدولي إلى التحذير من أن المملكة قد تستنفذ احتياطاتها النفطية خلال 5 سنوات. وحتى مع وجود ما يقدر بـ630 مليار دولار من احتياطات النقد الأجنبي، مع الحد الأدنى من الديون، فإن البلاد لا تزال في حاجة إلى كبح جماح الإنفاق على الدعم الشعبي. يأتي ذلك في وقت تتزايد فيه أهمية هذه النفقات في أعقاب ثورات الربيع العربي وصعود الحركات الجهادية مثل «الدولة الإسلامية»، والتي كشفت عن الأخطار الجدية التي تتهدد شرعية الحكم في البلاد.
يأتي ذلك في وقت تداعب فيه الأحلام مخيلة الأمريكيين بشأن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة وأخذ محل إمدادات الشرق الأوسط في أسواق التصدير. وقد شكل انخفاض أسعار النفط عبئا كبيرا على الدول المنتجة للنفط التقليدي التي تفتقر إلى التنوع الاقتصادي والفوائض المالية المتوفرة في الغرب ولدى بعض دول الشرق الأوسط. وقد خلق هذا تغييرات في السياسة الخارجية في بعض المناطق التي كانت تتجه ببطء نحو الاستقرار مثل نيجريا، أو حتى بعض الدول التي كانت ربما على قائمة التقارب الأمريكي الخاصة بالرئيس «أوباما» مثل فنزويلا.
كل ذلك ناهيك عن التأثير السعودي المحتمل على الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ والذي يفترض أن يهيمن على هذه المناقشات ولكن لا يحظى بذات الاهتمام المستحق نظرا للتوقعات الواقعية من صناع السياسة الدولية في هذا المجال. نظرا لتسارع وتيرة ارتفاع درجات الحرارة في العالم، فإن الأمر يتطلب فرض التزامات فعالة تجاه قضية انبعاث الكربون وهو التزام ينبغي أن يذهب إلى ما هو أبعد مما تم الاتفاق عليه في باريس العام الماضي.
يشكل السعوديون منذ فترة طويلة شوكة في خاصرة الجهود الرامية إلى التوصل إلى إجماع دولي بشأن قضية المناخ. ومع رؤيتهم للمؤشرات الدالة على وجود تحديات متزايدة من قبل مصادر الطاقة المتجددة والغاز الطبيعي منخفض الكربون، فيبدو أن الاستراتيجية المختارة لم تكن صديقة للبيئة بشكل قاطع. يختار السعوديون أن يقوموا باعتصار كل قطرة من مخزونهم التاريخي بدلا من تركه في باطن الأرض. ومن المرجح أن تغذي تلك الاستراتيجية التقلبات غير المفيدة في الأسواق.
وقد أكد «روجر ديوان» العضو المنتدب للخدمات المالية في IHS أنه مع قدرة الرياض على الإنتاج بشكل أكثر سرعة وأقل تكلفة من كل منافسيها، فإنها تهدف الآن إلى الاستيلاء على أجزاء أكبر من أي وقت مضى من النمو في الطلب العالمي للنفط، وترك بقية العالم يتقاتل على المتبقي منه. في غضون ذلك، فإن الضغوط تدفعهم نحو الإنتاج بقوة وفي أقصر وقت ممكن. ويؤكد «ديوان» أنه قبل عام واحد كان الحديث يدور حول أن الجيلين القادمين ينبغي أن يتم الحفاظ على حقهم في ثروة النفط وأنه ينبغي أن يستمر الإنتاج لمدة 50 عاما قادمة. الآن فإن اللهجة قد تغيرت نحو «نريد الإنتاج الآن».
تتحدث الرياض أيضا عن أطر زمنية قصيرة جدا لما يمكن أن نطلق علي مفهوم «ذروة النفط». وعلى الرغم من أن استراتيجية البلاد الجريئة تتطلع إلى العام 2030، فإن الأمير «محمد بن سلمان» قد أكد أنه يستهدف فطم البلاد عن الاعتماد على النفط لموازنة ميزانيتها بحلول عام 2020. هذا يعد طموحا كبيرا في الوقت الذي يمثل فيه النفط حاليا ما بين 80 إلى 90% من دخل الدولة، والذي شكل ثقافة من عدم الكفاءة الأسطورية المعتمدة بشكل كبير على السخاء الأبوي. ومن المتوقع أن يكون مفتاح هذه التغييرات هو البيع الجزئي المكثف لعملاق النفط المملوكة للدولة، أرامكو، ونقل قيمتها إلى صندوق للثروة السيادية من أجل تمويل سائر الاستثمارات المطلوبة للتغيير. وتماشيا مع الحاجة الملحة، تتوقع IHS أن السعودية سوف تسارع قريبا إلى رفع إنتاجها إلى مستويات تاريخية تبلغ 12.5 برميل يوميا وقد تصل إلى 15 برميل يوميا في نهاية المطاف.
ووفق وجهة نظر «ديوان»، فإن هذا المعدل السريع للضخ سوف يساعد على زيادة اهتمام المستثمرين بشركة أرامكو. كما أن استقرار الأسعار الأخير سوف يساعد بوضوح في هذا الصدد حتى لو كانت المفارقة أنه يأتي مخالفا للتوقعات السعودية. ينقسم المحللون بشكل واضح حول الاتجاه المحتمل أن يتخذه السوق، ولكن السعوديين من المرجح أن يرغبوا في استقرار الأسعار عند مستوى أقل بقليل من خمسين دولارا للبرميل، بالنظر إلى أن هذا الحد يعتبر هو العتبة التي قد يعود عندها العديد من منتجي النفط الصخري نحو المستويات المربحة للإنتاج.
ما لا يمكن تجاهله أيضا في هذا الصدد هو دور المنافس الإقليمي، إيران، في عملية إعادة معايرة الاستراتيجية السعودية. كما صار واضحا في الدوحة، فإن الرياض ليس لديها استعداد للسماح لمنافسها الإقليمي باستعادة موطئ قدم قوي في سوق النفط. وفي الوقت نفسه، فإن رغبة السعودية في تحديث اقتصادها وتجديد عقدها الاجتماعي والسعي نحو الهيمنة الإقليمية يأتي مدفوعا بعودة ظهور إيران. قبل إلغاء العقوبات عن إيران في يناير/كانون الثاني، قال مسؤولون سعوديون أنهم قلقون حول قدرة إيران المفاجئة على بناء اقتصاد أكثر تنوعا وقدرة على التكيف. في فبراير/شباط، لاحظت وكالة موديز أن «رفع العقوبات الدولية يعني أن إيران سوف يكون ليها فرصة للتكيف مع واقع انخفاض إيرادات النفط وتنفيذ إصلاحات هيكلية في وقت أسبق بكثير مقارنة بمصدري النفط الآخرين». بعض هذه التطورات تشمل إطلاق طائرات بدون طيار محلية الصنع متطورة نسبيا إضافة إلى الدبابات والصواريخ الباليستية، وهي أمور تأتي في تناقض صارخ مع الاعتماد الكامل على الواردات على الجانب السعودي وهو أمر تسعى الرياض إلى معالجته عبر رفع نسبة الاعتماد على الأسلحة المحلية إلى 50% مقارنة بنسبة 2% فقط في الوقت الراهن.
ضحكة الرياض الأخيرة
وبطبيعة الحال، فإن الجزء الأكبر من مخاطر لعبة النفط السعودية الجديدة تتحملها المملكة العربية السعودية نفسها. بعد كل شيء، فإن استراتيجيتها تقوم على التنبؤ بمسار تراجع المورد الذين يدين له النظام بازدهاره. وهذا يخلق مخاطر أكبر بكثير من نظيرتها في معظم الدولة المنتجة للنفط في الغرب وحتى في إيران التي تتمتع باقتصاد أكثر تنوعا. على الرغم من أن عملية بيع أسهم أرامكو سوف تكون واحدة من أكبر الاكتتابات العامة الأولية في التاريخ، فإن العديد من المحللين يشككون في مدى الفوائد طويلة الأجل التي سوف تعود على المستثمرين، وهو الأمر الذي يزداد صعوبة بالنظر إلى السرية التي تفرضها الشركة على الإيرادات والاحتياطيات الواقعة تحت سيطرتها. لا تزال مستويات الثقة في الاستثمار في المملكة العربية السعودية مهتزة: وقد قامت وكالة موديز بخفض التصنيف الائتماني الرسمي للبلاد خلال هذا الشهر.
وحتى في حال امتلاكها لتمويل أولي جيد، فإن رغبة السعودية في تنويع اقتصادها تواجه تحديات كبيرة. وقد جرت محاولات سابقة لرفع القاعدة الاقتصادية للبلاد من خلال استثمارات اقتصرت على بعض القطاعات المرتبطة بالنفط مثل التعدين، ومن المرجح أن نرى المزيد من المشاريع من هذا النوع في ظل التوجه الجديد. قدرة المملكة العربية السعودية على الازدهار كوجهة سياحية خارج إطار الحج تبدو في حدها الأدنى، كذلك التزامها بإصلاح سوق العمل والذي سيكون أمرا ضروريا في أي تغيير. يعود ذلك بوجه الخاص إلى الاعتماد التاريخي للاقتصاد على الاستضافة المؤقتة للكثير من العمال الأجانب، والذين تم ترحيل العديدين منهم بالفعل بسبب التدابير التقشفية، إضافة إلى حقيقة أن 70% من السكان المحليين هم تحت سن الثلاثين.
وبالتالي فإن قدرة رؤية 2030 على التغلب على تناقص عائدات النفط والحفاظ على سيادة السعودية تظل موضع شك كبير. في حين أن اتجاه الرياض نحو تبني نموذج اقتصادي أكثر مرونة يمكن أن يهدئ من قلق الكثيرين، فإن الاندفاع السعودي لمواصلة فتح صنابير النفط واحتكار حصة متزايدة في السوق نتيجة المنافسة مع إيران سوف يتسبب في متاعب عديدة لصناع السياسة الإقليمية والدولية حتى لو فشلت الخطة في النهاية. وقد كانت نهاية الهيمنة السعودية والشرق أوسطية على سوق النفط لفترة طويلة حلما للشركات الغربية ومفكري السياسة الخارجية في حين أن بعض الأعين كانت تتطلع إلى نهاية عصر النفط نفسه. ي حين أن السعوديين يبدو الآن مستعدين لتلبية هذه التطلعات، فإنهم يبدون في وضع جيد للاستمتاع بضحكتهم الظافرة الأخيرة أثناء القيام بذلك.
ناشيونال إنترست - ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد