كلّ ما في زيارة وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز يشير الى مقاربة جديدة، وضرورية في الوقت ذاته، للعلاقات مع الولايات المتحدة من جهة والى جهد حقيقي يصبّ في تنفيذ ما ورد في «رؤية السعودية 2030» من جهة اخرى.
بكلام أوضح لم يعد من مجال لتفادي الاقدام على مبادرات سعودية على كلّ الصعد وفي كلّ المجالات في ضوء التغييرات التي تشهدها المنطقة والعالم، بما في ذلك الدور الاميركي تجاهها. لا مجال للمراوحة. ليس في استطاعة أي دولة في العالم الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرّج من الاحداث الدولية على امل الا يكون لهذه الاحداث أي تأثير عليها.
كان في استطاعة الأمير محمّد الاكتفاء بالإعلان عن «رؤية السعودية 2030» التي اعتمدها مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان. بدا واضحا ان الخروج بمثل هذه الرؤية ليس كافيا. لا بدّ من المتابعة. لا بدّ من معرفة ماذا يدور في واشنطن في نهاية عهد باراك أوباما. هل السياسات المعتمدة في هذا العهد هي سياسات أميركية دائمة وثابتة ام ان تغييرا سيحصل؟ في الحالين لا مجال لدولة كبيرة مثل السعودية سوى الاعداد نفسها للمرحلة المقبلة بغض النظر عمّا اذا كانت ستكون هناك تغييرات في العمق ام لا.
ليست زيارة وليّ وليّ العهد السعودي زيارة عادية باي مقياس من المقاييس، خصوصا انها تشمل لقاءات مع كبار المسؤولين، كما انّها اقرب الى جولة من زيارة. فالامير محمّد سيمكث ايّاما عدّة في واشنطن دي. سي حيث يحزم كبار موظفي الدولة والمسؤولين فيها حقائبهم، كما سيجول في نيويورك وفي كاليفورنيا.
من الواضح انّ اهمّ ما في الزيارة يتجاوز تكريس استمرار التعاون العسكري القائم بين الولايات المتحدة والرياض. يتمثّل اهمّ ما في الزيارة في كيفية الاستعانة بالولايات المتحدة في تطوير الانسان السعودي. ولذلك ليس صدفة ان وليّ وليّ العهد السعودي لن يكتفي بلقاء عدد كبير من كبار رجال الاعمال الاميركيين في نيويورك، بل سيزور «سيليكون فالي» في كاليفورنيا حيث الشركات الكبيرة التي تنتج التكنولوجيا الحديثة. هذه الشركات هي عماد اساسي للاقتصاد الاميركي وهي عماد قوة الولايات المتحدة وعنوان تقدّمها.
لم تتقدّم الولايات المتحدة ولم تسيطر على العالم ولم تنتصر في الحرب الباردة الّا بفضل الانسان الاميركي الذي ذهب الى المدرسة وتعلّم قبل كلّ شيء ان عليه التزام التقيد بساعات عمل طويلة. في الوقت ذاته، سمحت المدارس والجامعات الأميركية ببرامجها التربوية المنفتحة والمتقدمة ببناء انسان يؤمن قبل كلّ شيء بان عليه الانكباب على الدراسة والدخول في منافسة قويّة مع الآخر في كلّ المراحل التعليمية وفي ميدان العمل من اجل بناء تفوّقه.
في صلب «رؤية السعودية 2030» يوجد الانسان السعودي. لم تعد من عقد في المملكة حيال كيف بناء هذا الانسان السعودي القادر على الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة وعلى تطوير نفسه بنفسه عن طريق برامج تربوية حديثة وصولا الى اليوم الذي لا يعود فيه البلد يعتمد على الثروة النفطية ولا شيء آخر غير الثروة النفطية. هذا هو التحدي الأبرز الذي يواجه السعودية التي تمتلك إمكانات ضخمة غير النفط.
هذا التحدي بالذات حمل محمّد بن سلمان الى واشنطن في توقيت اكثر من مناسب. هناك من يقول ان الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الكبار للعاصمة الأميركية في نهاية عهود الرؤساء لا فائدة منها. هذا الكلام صحيح لولا انّ الولايات المتحدة تمرّ حاليا في مرحلة مخاض ولولا ان هناك حاجة لفهم الاسباب التي ادّت الى هذا المخاض الذي يعبّر عنه صعود نجم دونالد ترامب. الأكيد انّه لو كان هناك وضع طبيعي في اميركا لما كان شخص متهوّر مثل ترامب، يقول الشيء وعكسه في غضون اقلّ من أسبوع، يتغلب على كل منافسيه ويصبح مرشّح الحزب الجمهوري في مواجهة هيلاري كلينتون. لا يمكن فهم ظاهرة ترامب بكل ما تنطوي عليه من مخاطر من دون جولة كتلك التي يقوم بها وليّ وليّ العهد السعودي... كان لا بدّ من فهم ما يدور في اميركا بغية فهم ما يدور في بقية العالم.
فوق ذلك كلّه، إضافة الى البحث في مستقبل العلاقات السعودية ـ الأميركية وآفاق التعاون في ظل المشروع التوسّعي الايراني، لم يعد من مجال لتفادي التعرّض لظاهرة الإرهاب بكلّ اشكاله. هناك شعور يسود الولايات المتحدة في الوقت الراهن يشبه الى حد كبير ذلك الذي ساد بعد العمليات الإرهابية التي نفذتها «القاعدة» في 11 سبتمبر 2001. هناك شاب مسلم من اصول أفغانية قتل بدم بارد 49 شاباً وشابة في ناد للمثليين في اورلاندو. خلق ذلك ذعرا في كلّ بيت أميركي.
هناك جهات استغلت العمل الإرهابي لانتقاد السعودية، علما ان الملك سلمان كان بين أوائل الزعماء الذين دانوا العمل الإرهابي من دون أي تردّ او تحفّظ من ايّ نوع.
من حسن الحظّ ان الأمير محمّد موجود في اميركا، لعلّ ذلك يساعد في قطع الطريق على أولئك الذين سيسعون الى استغلال الإرهاب الذي ضرب اورلاندو لمهاجمة السعودية وذلك في وقت يلعب اللوبي الايراني دورا في غاية الخطورة في مجال الربط بين «داعش» وبعض الدول العربية. يلعب هذا اللوبي الايراني دورا كبيرا في التحريض على العرب هذه الايّام، خصوصا في ظل تعاطف عدد لا بأس به من المساعدين المباشرين لاوباما مع ايران. يتجاهل هؤلاء الدور الايراني في قيام «داعش» والدور الذي يلعبه «داعش» في خدمة النظام السوري. هذا النظام الذي لا مهمّة لديه سوى متابعة حربه على شعبه بدعم ايراني وروسي.
لا بديل من التعاطي مع اميركا، بحسناتها وسيئاتها، لا بديل من الاستعانة بالتكنولوجيا الأميركية والاستفادة من الأسباب التي جعلت اميركا القوّة العظمى الوحيدة في العالم وبعض الشركات الأميركية ذات حجم اقتصادي يفوق الاحجام الاقتصادية لبعض الدول.
اقلّ ما يمكن ان توصف به زيارة محمّد بن سلمان للولايات المتحدة في هذه المرحلة بالذات، هو انّها زيارة تأسيسية. لا بدّ من إعادة تأسيس العلاقة بين واشنطن والرياض على قواعد جديدة تتفق مع التغييرات التي يشهدها الشرق الاوسط والعالم وما يدور داخل الولايات المتحدة نفسها.
مَنْ كان يتصوّر ان أوباما سيعتمد موقف المتفرّج حيال المأساة السورية تاركا المبادرة لإيران وروسيا؟ من كان يتخيّل ترامب مرشّح الحزب الجمهوري للرئاسة فيما جيب بوش في منزله؟ من كان يحلم بان برني ساندرز السناتور اليهودي اليساري، صاحب الأفكار الساذجة على كلّ صعيد، سيكون منافسا جدّيا لكلينتون على من سيكون مرشّح الحزب للرئاسة؟
تبدو اميركا في حاجة الى مَنْ يستكشفها مجدداً في هذه المرحلة الحساسة. هذا ما فعله محمّد بن سلمان... من اجل السعودية و«رؤية 2030» قبل أي شيء آخر.
خيرالله خيرالله- الراي الكويتية-