التوترات التي تزعزع استقرار العائلة المالكة في السعودية أصبحت واضحة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، عندما سافر «جوزيف ويستفال»، سفير الولايات المتحدة في الرياض إلى جدة لمقابلة ولي العهد الأمير «محمد بن نايف»، الوريث الصوري للعرش. ولكن عند وصوله، قيل له إنَّ نائب ولي العهد، الأمير «محمد بن سلمان»، يريد رؤيته على وجه السرعة.
غيّر السفير وجهته. وتجاوزت الولايات المتحدة وولي العهد هذا الموقف المحرج.
المؤامرات هي العنصر الرئيسي للممالك، ولكن من المستحيل المبالغة في كيف أنّه من غير المتوقع ظهور لعبة السلطة بين الأجيال في المملكة الصحراوية. وصف «روبرت ليسي»، في كتابه الكلاسيكي الذي نُشر عام 1981 تحت عنوان «المملكة»، تقليد الاحترام الذي حافظ على وحدة العائلة المالكة السعودية من خلال عقلية الوفرة والندرة: «احترام الكبير هو أحد القواعد الأساسية المقدسة في أسرة آل سعود، وأفضل وسيلة يعرفونها لضبط القوة الدافعة الخارجية للعديد من الرغبات».
لم يعد الوضع كذلك. ابتداء من يناير/كانون الثاني عام 2015، مع تولي الملك «سلمان» العرش، اهتزت المملكة العربية السعودية بحملة إصلاحية جريئة من ابنه، الأمير «محمد بن سلمان». ومن خلال تحدي والتفوق على «الكبار» في الأسرة المالكة، قلَبَ الأمير الشاب نائب ولي العهد سياسة المملكة المحافِظة والمتصلبة أحيانًا رأسًا على عقب.
كان «مكيافيلي» ليعجب بالأمير «محمد بن سلمان». إنّه شاب قوي يتحدث بسرعة ويتمتع بطاقة غريزية لقائد بالفطرة. لكن تكتيكاته الصارمة أزعجت بعض السعوديين، خاصة إقصاءه للأمير «محمد بن نايف»، البالغ من العمر 56 عامًا والأرفع منزلة ولو اسميًا. وبالإضافة إلى تغيير مسار سفير الولايات المتحدة، خطط الأمير «محمد بن سلمان» لإقالة أقرب مساعدي ولي العهد في سبتمبر/أيلول الماضي.
من الصعب على الغرباء فهم السياسة الداخلية السعودية، ولكن من المهمّ بذل المزيد من الجهد الآن. لقد وصل الشرق الأوسط إلى منحنى خطيرة، مع تمزيق الحروب الطائفية والإرهاب للدول في المنطقة. لكنَّ المملكة العربية السعودية القوية يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا، في حين أنَّ المملكة الضعيفة يمكن أن تضيف إلى الفوضى.
وتستند السردية التالية على عشرات المحادثات التي أُجريت خلال العام الماضي مع الأمراء السعوديين والوزراء الذين يدعمون الأمير« محمد بن سلمان»، والأمراء السعوديين والمستشارين الذين يشكّكون في الأمير «محمد بن سلمان»، ودبلوماسيين أوروبيين وعرب وخبراء في مجال الاستخبارات. لقد أجريت مقابلات مع مصادر متعددة لكل جزء من السردية.
إذا وقعت أحداث مسلسل «لعبة العروش» في الصحراء العربية، قد يكون لديها حبكة مثل تلك التي ظهرت في المملكة العربية السعودية على مدى الأشهر الثماني عشر الماضية؛ إذ تمّ توزيع رسائل مجهولة، وانتشرت حملات ترويج الشائعات حول الأمير نائب ولي العهد ومنافسيه.
وقد نصح الرئيس «أوباما» مساعديه بتجنب أي مظهر من مظاهر التحيّز. لكن لقاء الرئيس في البيت الأبيض يوم 17 يونيو/حزيران مع الأمير «محمد بن سلمان»، الذي عامله فيه كرئيس دولة، أشار ضمنيًا إلى دعم «أوباما» لأجندة المُصلح السعودي الشاب.
المصلح المتهور
من الصعب عدم دعم قائد شاب يسعى لتحويل دولة كانت فيها النزعة المحافظة والأصولية الدينية هي العقبات التي تحول دون تغيير حقيقي في العالم الإسلامي لعدة أجيال.
وقال لي العديد من المراقبين السعوديين البارزين الذين التقوا الأمير «محمد بن سلمان» إنهم يعتقدون أنّه لديه القدرة على إعادة بناء المملكة العربية السعودية وتحويلها إلى دولة أكثر ديناميكية وأكثر قدرة على حماية أمنها وجيرانها. ومع ذلك، يخشى العديد من المراقبين أنّه قادر أيضًا على قيادة بلاده إلى الهاوية مع سلوكه العنيد، والمتهور في بعض الأحيان.
الرهانات بالنسبة للولايات المتحدة تبدو هائلة. لأكثر من 50 عامًا، كانت المملكة النفطية حليفًا استراتيجيًا رئيسيًا، وسببًا لاستمرار القلق كذلك. القبلية السعودية لهجوم داخلي وخارجي أدى إلى إنفاق دفاعي أمريكي ضخم في الخليج العربي وأشعل حربيّ الخليج.
كان النفط السعودي نعمة، ولكن في بعض الأحيان، كما هو الحال في الحظر النفطي عام 1973، كان سلاحًا ضد الولايات المتحدة. كانت المملكة شريكًا ضد الإرهاب، ولكنَّ تياراتها «السلفية» ألهمت العديد من المتطرفين. لم ينس الأمريكيون أنَّ «أسامة بن لادن» كان سعوديًا وأنَّ خمسة عشر من الرجال التسعة عشر الذين نفّذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانوا سعوديين كذلك.
والمُصلح الذي يمكن أن يضع المملكة العربية السعودية على مسار أكثر حداثة واستقرارًا يمكن أن يغيّر قواعد اللعبة بالنسبة للولايات المتحدة والعرب. من خلال جذب الشباب العربي الساخط، يمكن لإصلاحي سعودي تشجيع قيام نهضة في العالم العربي السُني الذي دمّرته الحرب الأهلية والإرهاب والكراهية الطائفية.
هذا هو الوعد الذي جاء به الأمير «محمد بن سلمان». ومع ذلك، يكمن الخطر في أن سلوكه المتهور يمكن أن يؤدي إلى انهيار المملكة العربية السعودية وجعل كل هذه المشاكل أسوأ.
بالنسبة للمملكة التي نجت من تحوط رهاناتها ومقاومة التغيير، يقترح الأمير «محمد بن سلمان» سلسلة من الإصلاحات الشاملة، من بينها خصخصة شركة أرامكو السعودية وغيرها من الشركات الكبرى المملوكة للدولة، إنشاء دور السينما والمتاحف و«مدينة إنتاج إعلامي» للشباب الذي يتوق إلى الترفيه، إلى جانب تقليص قوة الشرطة الدينية، وفي مرحلة ما، السماح للنساء بقيادة السيارات.
هناك طريقة بسيطة لشرح هدف الأمير «محمد بن سلمان»؛ وهي أنّه يود أن يجعل المملكة العربية السعودية المنغلقة على نفسها والحذرة تبدو مثل دولة الإمارات العربية المتحدة المجاورة، مع ناطحات السحاب المذهلة واقتصاد السوق الحر. يبدو أنَّ الأمير يدرك أنَّ مثل هذا التحوّل الاقتصادي لن يكون ممكنًا من دون تخفيف حدّة التقاليد الإسلامية الصارمة في المملكة العربية السعودية. خطة الإصلاح «رؤية 2030»، تقدم التزامًا مربكًا ولكنه غير محدد: «رؤيتنا هي التطلع إلى بلد متسامح، الإسلام دستوره والاعتدال منهجه».
داخل العائلة
ولكن هل يستطيع الأمير الشاب المندفع تحقيق هذا الهدف؟ باعتباره وليًا لولي العهد، فإنّه من الناحية الفنية الرسمية رقم 3 في البلاد. إنّه قادر على التصرف باسم والده، الملك «سلمان»، البالغ من العمر 80 عامًا، والذي تشير بعض التقارير إلى معاناته من الخرف. لكنَّ خليفته المعيّن هو ولي العهد الأمير «محمد بن نايف»، الذي يشغل منصب وزير الداخلية ويسيطر على قوات الأمن الداخلي السعودي. ويقال إنَّ بعض كبار الدين الأمراء لا يشعرون بالارتياح حول تكتيكات الأمير «محمد بن سلمان» يقفون بهدوء وراء ولي العهد.
ويخشى الكثير من المراقبين السعوديين أنَّ البلاد تقترب من صراع صريح على السلطة بين الأمير« محمد بن سلمان» و«محمد بن نايف». وهذا يضع الولايات المتحدة في موقف حَرج، لأنها تريد الحفاظ على علاقات جيدة مع كليهما.
الأمير «محمد بن سلمان» يتفوق كمصلح، في حين أنَّ «محمد بن نايف» شريك موثوق به للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب لأكثر من عقد من الزمان، وقد نجا من محاولة اغتيال من تنظيم القاعدة ويعتبره العديد من المسؤولين الأمريكيين كصديق وحليف رئيسي. ولذلك، لا يريد المسؤولون الأمريكيون الاختيار بينهما.
زرتُ المملكة العربية السعودية لأول مرة في يناير/كانون الثاني عام 1981. كانت المملكة مازالت واقعة تحت صدمة شبه الثورة التي جرت قبل 14 شهرًا، عندما استولى أتباع رجل دين متشدد يدعى «جهيمان العتيبي» على المسجد الحرام في مكة المكرمة لمدة أسبوعين. وقد أظهر السعوديون قوتهم في مؤتمر الطائف، قرب مكة المكرمة، ولكنَّ القلق كان واضحًا على وجوههم، وكذلك كان الفساد في النظام السعودي. كتبتُ حينها سلسلة من المقالات لصحيفة وول ستريت جورنال في وقت لاحق من ذلك العام عن الفساد المستشري داخل المملكة.
كان العنصر الداخلي الذي أبقى على وحدة المملكة العربية السعودية، على الرغم من المشاكل الداخلية والخارجية، هو الأمير «سعود الفيصل»، الذي عمل 40 عامًا كوزير للخارجية. قابلته مرات عديدة على مدى تلك العقود ووجدته رجلًا ينحني، ولا ينكسر، عندما يواجه التغيير.
قدّم «سعود الفيصل» تعليقًا نبوئيًا في آخر محادثة دارت بيننا، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011. كنا نتحدث عن الثورة الجامحة المعروفة باسم الربيع العربي التي تجتاح المنطقة. شعر معظم المسؤولين السعوديين بالرعب من هذه الثورة، ولكن سعود كان هادئًا، بل ومتفائلًا.
وقال لي: «إنّه تحوّل كبير في العالم العربي. أنت لا يمكنك أبدًا أن تتجنب ما يريده الشعب، بغض النظر عن الحكومة. نحن نعمل على تطوير أنفسنا. ربما ليس بنفس وتيرة الثورة، ولكننا نعمل على التطوير بطريقة مستقرة».
لم يتصوّر سعود الفيصل تلك الزوبعة التي تدور الآن داخل العائلة المالكة. ربما ما كان رمزيًا حقًا هو أنَّ المؤتمر الذي عُقد في الرياض قبل بضعة أسابيع لتكريم إرث الأمير «سعود الفيصل» استضاف الأمير ولي ولي العهد.
يُقال إنَّ الأمير «محمد بن سلمان» كان من المقرر أن يعقد اجتماعًا لمجلس الإصلاح الاقتصادي في نفس توقيت افتتاح النصب التذكاري. وفي أيضًا إنَّ عائلة الأمير «سعود الفيصل» قد أجلت الافتتاح بحيث لا يكون هناك تعارض.
لقد تأسس النظام السعودي لاحتواء المعارضة الداخلية، لكنه يواجه الآن أكبر اختبار في تاريخ المملكة.
بداية المعركة السياسية
كيف بدأت هذه المعركة السياسية السعودية؟ يقول محللون إنَّ التوترات العائلية ظهرت في عهد الملك «عبد الله» الذي تولى العرش في عام 2005. وقبل وفاة الملك «عبد الله» يوم 23 يناير/كانون الثاني عام 2015، تمنى بعض المستشارين المقربين انتقال الخلافة لابنه «متعب»، الذي يقود الحرس الوطني السعودي. لكنَّ «سلمان»، الذي كان آنذاك وليًا للعهد، تحرك بسرعة (بمساعدة ابنه) ليتولى العرش ومن ثمّ توطيد السلطة.
بعد أقل من أسبوع من وصوله إلى العرش، أصدر «سلمان بعض المراسيم التي غيّرت ميزان القوى في المملكة. تمّت الإطاحة باثنين من أبناء الملك «عبد الله»، الأمير «تركي» والأمير «مشعل»، الأول أمير منطقة الرياض والثاني أمير مكة المكرمة. كما تمّت الإطاحة بالأمير «بندر بن سلطان» كمستشار للأمن القومي، وهو السفير السابق لدى واشنطن الذي كان يُلقب في بعض الأحيان باسم «بندر بوش» بسبب قربه من الرئيسين «بوش».
هذه المراسيم الصاعقة من «سلمان» أدت إلى تعيين «محمد بن نايف» وليًا للعهد بدلا من ولي العهد آنذاك الأمير «مقرن». ربما الأمر الأكثر أهمية، هو تعيين «سلمان» لابنه في منصب وزير الدفاع ورئيس المجلس الجديد للشؤون الاقتصادية والتنمية. وقد سيطر الأمير« محمد بن سلمان» على كل من الجيش والروافع الاقتصادية للسلطة.
«كل هذا تمّ التخطيط له بدقة متناهية»، هكذا قال أحد السعوديين الذين شاهدوا هذه المناورات من الرياض. «لقد كان انقلابًا غير دموي». وفي غضون أسبوع، حدث شيئان غير تقليديين: تمّ وضع الجيل التالي على خط الخلافة، وأشار الملك الجديد وابنه إلى انفصالهما عن السياسة التوافقية التقليدية لعائلة آل سعود.
لقد تعلّم معظم كبار الأمراء في الغرب ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة. الأمير «سعود الفيصل»، وزير الخارجية منذ فترة طويلة والذي توفي العام الماضي، ذهب إلى جامعة برنستون، وشقيقه الأمير «تركي»، رئيس المخابرات السابق، هو خريج جامعة جورج تاون. والشقيقان الأكبر للأمير «محمد بن سلمان»، الأمير «سلطان» والأمير «فيصل»، درسا في جامعة دنفر وأكسفورد. صحيح أنَّ هؤلاء الأمراء السعوديين ارتدوا الجلباب البدوي، ولكنَّ قلوبهم كانت في الغرب. ولعلّ هذا هو أحد أسباب محاولة كبار الأمراء الحفاظ على الدعم من الزعماء الدينيين لإلهاء الرأي العام عن النمط الغربي للقيادة داخل المملكة.
لكنَّ الأمير «محمد بن سلمان» كان فتى محليًا. والده، الذي كان معروفًا في شبابه بأنّه مصلح عائلة آل سعود، يرى نفسه في ابنه من زوجته الثالثة.
وكان الأمير محمد بن سلمان شابًا «جشعًا» في شبابه، وفقًا لأحد المقربين، ويحكي السعوديون القصص عن صفقاته المالية الهائلة وحبه لليخوت الضخمة، حيث يقضي وقتًا ممتعًا مع الأصدقاء. لم يذهب إلى الخارج للتعليم، وعلى الرغم من أنّه يفهم اللغة الإنجليزية، إلّا أنّه يفضّل التحدث باللغة العربية.
النموذج الإماراتي
رأى الأمير «محمد بن سلمان» نموذج المعلم في الشيخ «محمد بن زايد»، القائد العسكري لدولة الإمارات العربية المتحدة، ورأى الشيخ في الأمير الشاب ممثلًا لتغيير حيوي في بلد يحتاج إلى بعض الديناميكية.
تجلى الشك الإماراتي تجاه الحرس السعودي القديم في برقية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2009 من «ريتشارد أولسون»، سفير الولايات المتحدة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة آنذاك، نشرها موقع ويكيليكس، وجاء فيها: «إنَّ القيادة في أبو ظبي لا تفوّت فرصة السماح لكبار المسئولين الأمريكيين بمعرفة أنهم يرون أنَّ المملكة تُدار من قِبل كبار السن من الرجال المشاكسين المحاطين بالمستشارين الذين يعتقدون أنَّ الأرض مسطحة».
وعدَ الأمير «محمد بن سلمان» بشيء مختلف. الدور التوجيهي من الشيخ «محمد بن زايد» قد يعكس أيضًا التوترات طويلة الأمد مع «محمد بن نايف» ووالده، الذي كان وزيرًا للداخلية كذلك. لقد قال زعيم الإمارات العربية المتحدة لمسؤول أمريكي خلال زيارته في يناير/كانون الثاني 2003 إنَّ «الطريقة المرتبكة لوزير الداخلية السعودي، الأمير محمد بن نايف، أشارت إلى أنَّ داروين كان مُحقًا». وذلك وفقًا لبرقية أخرى نشرها موقع ويكيليكس. أخذت أسرة «نايف» هذا التصريح بأنّه تشبيه للأمير بالقرد.
شجّع المسؤولون الإماراتيون أفكار الأمير «محمد بن سلمان» حول الإصلاح، واقترحوا بعض شركات الاستشارات البارزة، مثل شركة ماكينزي ومجموعة بوسطن للاستشارات، التي قدّمت المشورة لدولة الإمارات العربية المتحدة. وسرعان ما بدأت شركات الاستشارات العمل على صياغة ما أصبحت فيما بعد مقترحات طموحة لإصلاح جميع الوزارات السعودية.
بصفته وزيرًا للدفاع، كسر الأمير «محمد بن سلمان» بسرعة التقليد السعودي الحذر للصراع العسكري والاعتماد على قوة الولايات المتحدة. وكان الأمير على قناعة تامة بأن التدخل الإيراني في اليمن يهدّد المملكة، ومن ثمّ تحوّل الأمير «محمد بن سلمان» إلى الهجوم، وفي مارس/أذار 2015، بدأت الطائرات السعودية بقصف المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وقد ساعدت دولة الإمارات العربية المتحدة في التخطيط للهجوم وأرسلت القوات والطائرات.
منذ البداية، كان المسؤولون الأمريكيون يشككون في حرب اليمن. وهكذا كان «محمد بن نايف»، الذي يُقال إنه شعر بالقلق من أنَّ الحملة قد تعزز تنظيم القاعدة وتنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن الحملة انطلقت بالفعل. وتحدث وزير الدفاع أيضًا عن إرسال قوات سعودية إلى سوريا، وبدأ سيناريو التخطيط لمثل هذا التدخل. ولكن هذه الفكرة تمّ رفضها بسرعة.
اتخذ الأمير «محمد بن سلمان» خطوة حاسمة في أبريل/نيسان 2015. صدر مرسوم ملكي أطاح بالأمير «مقرن» كولي للعهد، وترقى الأمير «محمد بن نايف» ليصبح الشخصية رقم 2 داخل المملكة وتمّ تثبيت الأمير «محمد بن سلمان» ليصبح رقم 3. هذا التغيير في خطة الخلافة الرسمية أزعج بعض أعضاء العائلة المالكة. وعلى الرغم من أنَّ «مقرن» كان يُنظر له على نطاق واسع باعتباره الملك المحتمل غير المناسب، شعر السعوديون بالقلق من هذه السابقة التاريخية، وإمكانية تعديل خطة الخلافة مرة أخرى لتثبيت الأمير «محمد بن سلمان».
تمّ التصديق على التغييرات من قِبل هيئة البيعة السعودية. ووفقًا لمسؤول سعودي رفيع المستوى يدعم الأمير «محمد بن سلمان»، حصل الأمير الشاب على أصوات من الهيئة أكثر من الأصوات التي حصل عليها الأمير «مقرن» والأمير «محمد بن نايف» عند التصديق على مناصبهما. لكن بعض المحللين الأمريكيين يشعرون بالقلق بشأن محاولات توجيه التصويت.
مهما كان إجمالي التصويت، فإنَّ الأحداث الأخيرة تشير إلى أنَّ آلية صنع القرار التوافقي داخل الأسرة المالكة التي من المفترض أن تعززها هيئة البيعة قد انهارت إلى حد كبير الآن. وهذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. إجماع الأسرة المالكة غالبًا ما ينتج حالة من الشلل في المملكة. ولكن كبار الأمراء الساخطين يمكنهم إثارة المشاكل للأمير «محمد بن سلمان».
تقويض موقف ولي العهد
وقد كان الأمير «محمد بن سلمان» على استعداد لخوض التجربة، حتى في تعامله مع روسيا. عندما زار الأمير واشنطن في مايو /أيار 2015، قال مسؤول كبير في الولايات المتحدة إنّه كان متشكّكًا من مكائد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين». لكن الأمير حظي بلقاء ودود مع «بوتين» عندما زار سان بطرسبرج.
وتوسطت روسيا في زيارة إلى الرياض في أواخر يوليو/تموز من قِبل رئيس المخابرات السورية «علي مملوك»، حيث يُقال إنَّ الأمير «محمد بن سلمان» استكشف طرق إنهاء الحرب الأهلية السورية. ولكن لم ينتج أي شيء من هذا اللقاء.
زاد الضغط على سلطة الأمير «محمد بن نايف» خلال العام الماضي بطرق مختلفة. وقال إنَّ ولي العهد لن يكون لديه ديوان، خاصة به. وبدلًا من ذلك، تشارك في ديوان مع الملك، مما يعني أنَّ الأمير «محمد بن سلمان» قد أحكم سيطرته على الديوان.
وجاءت الضربة الحاسمة في أوائل سبتمبر/أيلول عندما أقال الملك «سلمان»، بناء على إلحاح ابنه، «سعد الجبري»، الذي كان أقرب مستشاري الأمير «محمد بن نايف» لسنوات عديدة.
ويوضح مصدر أمريكي ما حدث بأنَّ: «الجبري» كان قادمًا إلى الولايات المتحدة في زيارة شخصية، وقرر زيارة صديقه القديم «جون برينان»، مدير وكالة المخابرات المركزية. ولم يبلغ الملك «سلمان» بشأن هذا اللقاء، وعندما علم الملك بما حدث، أقال «الجبري». ويزعم مصدر عربي أنّه كان هناك أيضًا أدلة وثائقية تشير إلى أنَّ «الجبري» دعم سرًا جماعة الإخوان المسلمين، ولكن مسؤولين أمريكيين استبعدوا مثل هذا الادّعاء باعتباره غير قابل للتصديق.
تمّ تقويض موقف ولي العهد علنًا بعد إقالة أحد المقربين منه، ووصفه بعض الأصدقاء بأنه منعزل وسلبي إلى حد ما في الخريف الماضي. وكان يعاني أيضًا من بعض المشاكل الصحية. فقد أمضى ولي العهد أمضى ستة أسابيع في ديسمبر/كانون الأول وأوائل يناير /كانون الثاني الماضي في فترة راحة ونقاهة في الجزائر.
ولكن الأمير «محمد بن نايف» عاد من رحلة الجزائر مع التزام جديد. وكان يشعر بالقلق منذ أشهر أنّه في حرب اليمن، القوة السعودية بالوكالة التي تُعرف باسم حزب التجمع اليمني للإصلاح كانت تقاتل إلى جانب تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. وفي مارس/أذار الماضي، أكّد على هذه الحجة، وقيل إنَّ السعوديين قد غيّروا استراتيجيتهم في اليمن لاستهداف مقاتلي القاعدة والدولة الإسلامية على نحو أكثر فعّالية.
مغامرة الأمير «محمد بن سلمان» في اليمن يبدو أنها تنتهي الآن. في أبريل/نيسان الماضي، بدأ السعوديون المفاوضات مع الحوثيين في الكويت. ورعت الولايات المتحدة اتصالات سريّة إضافية. ويقول مسؤولون أمريكيون وسعوديون وأوروبيون إنّه من المحتمل عقد هدنة عن طريق التفاوض، وهذا ليس النصر المجيد الذي أراده الأمير «محمد بن سلمان»، ولكنها مجرد تسوية من شأنها وقف النزيف في اليمن. معسكر الأمير «محمد بن سلمان» يفتخر بأنَّ الحرب أظهرت أنَّ إيران «نمر من ورق».
التوازن الهش
هل يمكن لهذا التوازن الهشّ أن يدوم، مع تعايش ولي العهد ونائب ولي العهد تحت قيادة ملك مريض؟ إذا كان يجب على الملك «سلمان» ترك الساحة، هل سيخلفه ولي العهد، كما تنص خطة الخلافة الحالية؟ أم أنَّ الأمير «محمد بن سلمان» سيحاول كسر خط الخلافة، مع موافقة من هيئة البيعة المطواعة؟
السعوديون لا يعرفون الجواب. في يناير/كانون الثاني الماضي، انتشرت شائعات تخلي الملك «سلمان» عن العرش لصالح ابنه. سارع المسئولون الأمريكيون لتقييم الوضع. ولكنَّ الملك «سلمان» لم يشر إلى أي تغييرات وشيكة في خطة خلافة، مما خفف من مخاوف الولايات المتحدة. والآن، ظهرت الشائعات مرة أخرى؛ ففي الأسبوع الماضي، لخص أحد السعوديين في الرياض الأمور على هذا النحو: «هناك توتر كبير، والأعصاب مشدودة».
إنّه لكي نُقدّر التحدي الذي يواجه الإصلاحيين، فمن الأفضل الحصول على صورة واضحة للعقلية العربية السعودية. إنّها ليست إمارة صغيرة مثل الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
إنّها رقعة رملية شاسعة، تصل إلى ثلاثة أضعاف مساحة ولاية تكساس، ويبلغ عدد المواطنين السعوديين أكثر من 20 مليون نسمة، بضعة ملايين أقل من أستراليا، وما يقرب من نصف السكان تقل أعمارهم عن 25 عامًا. وتشير تقديرات كتاب حقائق العالم إلى أنَّ نسبة البطالة بين الذكور تتجاوز 11%، في حين يبلغ معدل البطالة الإجمالي 25%. إنّها دولة كبيرة، تعاني من مشاكل معقدة.
وغالبًا ما يصاب زوار المملكة بحالة من الذهول من المزج الغريب بين الحداثة وما قبل الحداثة. الرياض مدينة كبيرة، ذات كثافة مرورية عالية، مع فيلات كبيرة للسعوديين الأثرياء وعائلاتهم. لكنها تفتقر مظاهر المدينة الحديثة. هناك، لا يمكنك العثور على دور السينما والملاهي الليلية أو المتاحف الفنية.
والكثير من الأعمال في الشركات السعودية يقوم بها الوافدون من جنوب آسيا. بين السعوديين، وخاصة الرجال، هناك شعور بالفتور حيث هناك الكثير من الوقت والقليل من الأعمال، باستثناء الأكل. المرأة السعودية امرأة ديناميكية ومثقفة، وذلك بفضل الملك «عبد الله». ولكنها غائبة إلى حد كبير في الحياة العامة.
هذا هو المجتمع المتعسر الذي يريد الأمير «محمد بن سلمان» ومستشاروه تحريره. تبدأ أفكارهم الإصلاحية بالاعتقاد بأنّه ما لم يتم تنويع الاقتصاد السعودي خارج القطاع النفطي، فإنّه لا يمكن خلق وظائف كافية لتلبية احتياجات شباب المملكة الساخطين. ولن يزدهر الاقتصاد في هذا البلد المقيّد من قِبل رجال الدين الرجعيين، لذلك قرر الأمير «محمد بن سلمان» ومستشاروه أنّه يجب تحدي القيادة الدينية أيضًا.
هل تنجح أجندة الإصلاح؟
أجندة الإصلاح مذهلة. وثيقة «رؤية 2030» هي كتيب ماكر يوضح مستقبل السعودية الذي سيكون حيويا ومزدهرا وطموحا. تأتي تفاصيل تلك الرؤية في 111 صفحة تحت عنوان «برنامج التحوّل الوطني» الصادر هذا الشهر. ويسرد أهداف ومبادرات محددة لتحقيقها بحلول عام 2020 في 24 وزارة وهيئة سعودية غير دفاعية.
بالنسبة للبيروقراطيين السعوديين الذين تعودوا على حالة التكدس الوظيفي والذين غالبًا ما يكلّفون العمالة الوافدة بالعمل الشاق، كانت الأشهر الأخيرة مثيرة للغاية. قال لي أحد الوزراء إنَّ الأمير «محمد بن سلمان» يحفز وزرائه ومستشاريه ويدفعهم للعمل خلال الليل لاستكمال جداول أعمالهم.
خطة التحوّل الوطني مليئة بالمقاييس المفضّلة من قِبل الاستشاريين في مجال الإدارة الذين عيّنهم الأمير «محمد بن سلمان». هناك 178 من الأهداف الاستراتيجية، وسيتم قياس التقدّم المحرز بواسطة 371 من «مؤشرات الأداء الرئيسية»، وستبدأ الوزارات 543 مبادرة جديدة.
هذه المقاييس محددة للغاية: زيادة الإيرادات غير النفطية لأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2020، وخفض دعم المياه والكهرباء بنسبة أكثر من 50 مليار دولار، وزيادة نسبة السعوديين الذين يمتلكون سجلات صحية رقمية من صفر إلى 70%، وزيادة عدد الفعاليات الثقافية في المملكة من 190 إلى 400 فاعلية سنويًا. تشير هذه الأرقام إلى بلد مختلف.
أكبر جزء في برنامج الإصلاح قد تكون خطة الأمير «محمد بن سلمان» لخصخصة جزئية لشركة أرامكو السعودية. يشرف على هذا التحوّل وزير الطاقة «خالد الفالح»، وهو تكنوقراطي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، وقضى 30 عامًا في شركة أرامكو ويُقدّر كيف أسست الشركة المملكة العربية السعودية الحديثة.
لقد أسست شركة النفط العملاقة الطرق والمدارس والمطارات ومحطات التلفزيون الحديثة وحتى المجلات. في عملية تحديث أرامكو، تجري المملكة ما يعادل جراحة لتغيير شرايين القلب.
لم يشهد العالم خصخصة بهذا الحجم. يرى السعوديون أنَّ قيمة شركة أرامكو السعودية تتراوح ما بين 2 تريليون دولار إلى 3 تريليون دولار. ويريد الأمير محمد بن سلمان ومستشاروه بيع أقل من 5% من الشركة لمستثمرين من القطاع الخاص، ولكن حتى هذه الحصة الصغيرة قد تصل قيمتها إلى أكثر من 100 مليار دولار، وهذا سيجعل عملية الخصخصة أكبر بكثير من أي اكتتاب عام سابق.
هذه الخصخصة ستهز شركة أرامكو السعودية وعقلية دولة الرفاه التي أنتجتها الطفرة النفطية. ويقول مصدر سعودي بارز: «قطاع الأعمال لدينا أصبح كاسدًا للغاية. نائب ولي العهد يريد وقف إعانات المجتمع. ويريد من المواطنين السعوديين أن يصبحوا أكثر اعتمادًا على أنفسهم. إنّه يريد أن يكون الشعب أقل اعتمادًا على الحكومة».
ولكن ماذا عن الفساد؟ في روسيا، أنشأت الخصخصة فئة من الأقلية (الأوليغارك) الذين خنقوا الاقتصاد الروسي. ويقول مسؤولون سعوديون إنهم سيكونوا يقظين لمنع حدوث عملية مماثلة في المملكة. لكن المتشكّكين يتساءلون عما إذا كانت المملكة العربية السعودية لديها مؤسسات قانونية وشفافية للحفاظ على سيادة القانون. ويقول مسؤولون أمريكيون إنَّ الأمير «محمد بن سلمان» نفسه انخرط في بعض الممارسات التجارية الغامضة والمشكوك فيها.
قام الأمير «محمد بن سلمان» بجولة إلى واشنطن وكاليفورنيا ونيويورك هذا الشهر لتعزيز هذا البرنامج. وقال لرواد الأعمال في وادي السليكون في 22 يونيو/حزيران إنّه من خلال الضغط من أجل التغيير، فإنَّ المملكة العربية السعودية لديها مزايا الحكم الاستبدادي. «هناك ميزة لسرعة اتخاذ القرار، هذا النوع من التغيير السريع الذي تستطيع أي ملكية مطلقة القيام به في خطوة واحدة، وهذا من شأنه أخذ الديمقراطية التقليدية 10 خطوات إلى الأمام» كما قال الأمير، وفقًا لمذكرات أحد المشاركين.
أكبر علامة استفهام هنا هي ما إذا كان الأمير «محمد بن سلمان» يمكن أن يغيّر التحالف بين آل سعود والمؤسسة الدينية المحافظة. هذا التحالف أسس الدولة السعودية ولكنه أضعفها أيضًا. لقد قام ببعض الخطوات، بما في ذلك إصدار مرسوم ملكي في أبريل/نيسان قلص من صلاحيات الشرطة في اعتقال المواطنين.
وعد مستشارو الأمير «محمد بن سلمان» بالمزيد من هذه الإصلاحات، بما في ذلك المزيد من المواقع الترفيهية في المملكة والمتاحف التي تعرض الفن الغربي، والمزيد من اختلاط الجنسين في الأماكن العامة، وقريبًا جدًا، منح فرصة للنساء لقيادة السيارات. لكنَّ الأمير «محمد بن سلمان» يبدو حذرًا؛ فهو لا يريد أن يمنح المتطرفين الدينيين هدفًا سهلًا عن طريق التحرك بسرعة كبيرة. لقد أخبر المستشارين أنَّ المقاومة من القيادة الدينية يمكن التغلب عليها ولكنها تحتاج إلى شجاعة.
المملكة العربية السعودية لن تكون دبي، ناهيك عن باريس أو نيويورك. الحقيقة الجغرافية البسيطة أنَّ المملكة تستضيف الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة تضع حدًا لمدى محاكاة دولة الإمارات العربية المتحدة. لكنَّ الأمير «محمد بن سلمان» يبدو على استعداد لتجاوز الحدود.
يلخص مسؤول عربي بارز التحدي السعودي على هذا النحو: «اتهِمت المملكة العربية السعودية بكونها دولة قديمة وبطيئة ومتخلفة. ولكن أخيرًا، أصبح لدينا شخص يتحرك إلى الأمام ويغيّر البلاد. نحن بحاجة لمنحه مجالًا للعمل».
إدارة «أوباما»، في حين أنها تحرص على عدم الانحياز لأي طرف داخل المملكة، يبدو أنها تتفق على أنَّ الأجندة الإصلاحية للأمير «محمد بن سلمان» توفر فرصة لتحقيق الإنجاز الذي تحتاج إليه المملكة العربية السعودية. ولكن يأمل مسؤولون أمريكيون أنَّ الأمير الشاب المندفع والمتغطرس في بعض الأحيان لن يتحرك بسرعة لدرجة أنّه قد يسقط، ويأخذ معه الاستقرار السياسي في المملكة.
واشنطن بوسط-