قرابة السبعة أشهر هي المدة التي تفصلنا منذ إعلان محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، “رؤيته” لإنقاذ السعودية من الانهيار الاقتصادي، وخلال هذه المدة – وخلافا للدعايات الرسمية الطويلة – لم تتوقف البلاد عن الدخول في دوامة مستمرة من التدهور الاقتصادي والإجراءات المتتالية التي تنم عن مخاوف حقيقية من انفلات الأوضاع المالية والاقتصادية وخروجها على السيطرة.
أزمة العمال الأجانب الذين حُرموا عدة أشهر من أجورهم، واضطرارهم – بشكل غير مسبوق في بلد قمعي مثل السعودية – للإعلان عن الاحتجاج وإغلاق الشوارع العامة؛ هو المظهر الخارجي من الأزمة التي يقوم خبراء بأنها تسرى في شرايين “مملكة آل سعود” مثل السرطان الذي فات أوان التحكم فيه أو علاجه جذريا. إنه داء يُشبه “الحال” السوريالية التي تشهدها السعودية حينما تعجز مستشفيات عريقة، مثل مستشفى سعد التخصصي، عن صرف رواتب الأطباء والموظفين عدة أشهر.
ولأنّ المأزق الاقتصادي في السعودية أكثر تعقيدا من “الظاهر”، فإن الموالين لآل سعود وجدوا في هذا “الظاهر” فرصةً للهروب من عمق المشكلة وأصلها. على هذا النحو كان التركيز على موضوع الأجانب في السعودية، والذين ووجهوا بتعليقات عنصرية كرّست سياسة التمييز ضدهم في الحكومة والشركات المحلية، والذي تجلى بوضوح مع تركهم عدة أشهر بلا رواتب أو مدخول خاص يفي متطلباتهم المعيشية الأساسية، وترحيلهم لاحقا دون منحهم مستحقاتهم. في “الظاهر” أيضا، كان الحديث داخل السعودية عن ملفات “توطين” العمل، أو “السعودة”، وهو حديث يتقاطع مع “الماكينة” الدعائية التي تحركها المخابرات والأجهزة الرسمية بغرض “التغطية” (التعمية) على “عصب” المشكلة الاقتصادية في البلاد، والتي تتصل مباشرة بفساد آل سعود من جهة، والاستبداد السياسي من جهة أخرى.
سبق إعلان محمد بن سلمان عن رؤية ٢٠٣٠م؛ موجة موجهة من الاحتفاليات والدعاية المكشوفة، وهي احتفالية صّعدها السعوديون بعد الإعلان عن الرؤية وذلك بغرض أن يسدوا بها الطريق على التساؤلات النقدية الممكن طرحها حيالها، لاسيما وأن آل سعود اعتادوا على التبشير بمثل هذه “الرؤى” والمشاريع الإنقاذية بين فترة وأخرى، وخاصة حينما يتورطون بمشاكل داخلية أو خارجية، ولكن أغلب تلك المشاريع تم تجاوزها ونسيانها في زحمة “الدعايات” والملفات الملغومة التي يتم غرسها في منتصف الطريق لإلهاء الناس عنها وقطع الذاكرة معها.
ولكن، هذه المرة، وبعد دخول السعودية في المؤشرات الجدية للانهيار الاقتصادي؛ لم تنقطع الأصوات الناقدة التي أعلنت صراحة بأن رؤية ابن سلمان هي “مأزق” وليس “حلا”، وقال الكاتب الاقتصادي فهد القاسم بأن هذه الرؤية تمثل “تدميرا للاقتصاد” و”تخريبا للمجتمع” و”تضليلا للجمهور”، وذلك في انتقادات وُصفت ب”الجريئة” وسط تصاعد السياسة الرسمية التي وُصفت ب”المتخبطة”، ولاسيما على صعيد “التقشف” وتقليص رواتب الوزراء كبار الموظفين، ورفع أسعار تأشيرة الحج، إلا أن ذلك عبّد الطريق لبروز المشاكل العميقة التي تغلي في الداخل.
المعضلة السعودية تبدأ من هيمنة الحكم الدكتاتوري على البلاد، وانغلاق الطريق أمام أي شكل من أشكال الحكم الدستوري والرقابة الشعبية. وكما يقول محللون، فإنّ أي حديث عن “إصلاح اقتصادي” بمعزل عن “إصلاحات سياسية” موازية أو متقدمة؛ هو أشبه بالكلمات الفارغة. إضافة إلى الاستبداد، فإن السعودية تورطت في تحويل النفط إلى سلاح سياسيّ على خلفية اشتباكها مع إيران، وتسببت في أزمة أسعار النفط التي تحولت إلى حبلٍ ممدود سرعان ما التفّ حول عنقها، واضطرها لتقديم تنازلات سريعة في أكثر من اجتماع لدول “أوبك” مؤخرا. كذلك، فإن استغراق آل سعود في التسليح، ودفع المليارات في تمويل أو إشعال أكثر من حرب في المنطقة، وخاصة في سوريا واليمن؛ أنهك المال السعودي الذي يتقاسم بقاياه الأمراءُ الذين يعيشون حياة باذخة ويهدرون أموال البلاد في شراء العقارات والجزر وإقامة الحفلات وتمويل شركات العلاقات العامة في الخارج.
وبسبب أزمة النفط؛ فإن أموال السعودية معرضة للنفاذ خلال ٦ سنوات مقبلة، كما تقول تقارير اقتصادية تؤكد بأن تأثير انخفاض سعر النفط على ميزانيات السعودية (والبحرين) هو “الأكثر حدة” بين دول الخليج. ومع المخاطر المحدقة بمئات المليارات السعودية في الولايات المتحدة بعد إقرار قانون “جاستا”؛ فإن سلسلة لا تنتهي من المخاطر النامية يمكن الوقوف عندها مع التدهور “المتوحش” في الأوضاع الاقتصادية، والعجز في الميزانية، والضعف المتتال في أسواق المال، وهو ما قد يؤدي إلى خفض تصنيف ديونها وزيادة الفوائد المصرفية، وهو ما سيُعجّل بتصاعد الانهيار العام في البلاد، ومن بوابة الاحتجاج الاجتماعي وتململ الناس.
لم يجد ابن سلمان حيلة للهروب من هذه الأزمات، وإعادة الحديث عن الحلول التي تبشر بها رؤيته “الاقتصادية”، غير أن المآزق الإقليمية التي تلف حول آل سعود، ووصول المشروع السعودي في المنطقة إلى “الحوائط المسدودة”؛ سيكون سبباً “آليا” في بروز “المآزق الاقتصادية” على السح، وسريانها إلى هياكل الدولة، وليس فقط عند حدود شركات العقار الكبرى (ابن لادين، وسعودي أوجيه)، وهو ما سيتعاظم معه الإستياء الشعبي ونمو متجدد للمجموعات “الجديدة” التي ستمثل عاملا – غير متوقع ربما – في تعجيل إقلاع طائرة “انهيار آل سعود”.
وكالات-