يعول على القطاع الخاص تولي زمام المبادرة في استيعاب أغلب الباحثين عن فرص عمل من المواطنين والمواطنات، ويزداد الاعتماد عليه في الوقت الراهن ومستقبلا، لتعظيم دوره التنموي أكثر مما مضى. في الوقت ذاته؛ الذي ينتظر منه أن يتجاوز التحديات الجسيمة التي يواجهها الآن ومستقبلا، الناتج أغلبها عن تراجع أسعار النفط وتباطؤ الإنفاق الحكومي، وما تلاها من بدء ارتفاع التكاليف التشغيلية على عاتقه كرسوم حكومية جديدة، وينتظر أن يواجه قريبا ارتفاع تلك التكاليف التشغيلية بوتيرة أكبر، مع بدء تحرير أسعار استهلاك الطاقة محليا، إضافة إلى ارتفاع الرسوم الحكومية على العمالة الوافدة لديه.
المؤكد تماما هنا؛ أن القطاع الخاص لن تتحقق له القدرة على زيادة استيعاب الباحثين عن العمل من المواطنين والمواطنات، وزيادة توظيفهم وتقليص معدلات البطالة لدى القوى العاملة السعودية، إلا بمدى قدرته على تجاوز التحديات الجسيمة المذكور بعضها أعلاه! وهذه علاقة بالغة التعقيد إلى أبعد ما يمكن تصوره؛ ذلك أن صندوق النقد الدولي قد اشترط لنجاح تلك العلاقة بين ضرورة توافر القدرة لدى القطاع الخاص على تقليص معدل البطالة، أن ربطها بصورة قوية جدا بضرورة تحقق نمو حقيقي كبير للقطاع الخاص، أشار إليه بوضوح تام في ثنايا أحدث تقريرين له صدرا عن أداء الاقتصاد السعودي خلال الفترة 2015-2016، مبينا أن على القطاع الخاص للوفاء بذلك المطلب الحيوي "التوطين"، ألا يقل معدل نموه السنوي عن 7.0 في المائة!
وبالنظر إلى أحدث معدلات نمو القطاع الخاص خلال العامين الماضيين، تظهر البيانات الرسمية للهيئة العامة للإحصاء أن معدلات نموه ربع السنوية الحقيقية، تأرجحت طوال عام 2015 بين 4.4 و3.0 في المائة، سرعان ما تراجعت إلى ما دون الـ 0.3 في المائة طوال الثلاثة أرباع الأولى من العام الماضي 2016. والأصعب من ذلك؛ أن معدلات النمو الحقيقية ربع السنوية للصناعات التحويلية (باستثناء تكرير الزيت) قد دخلت مرحلة تسجيل معدلات نمو سلبية منذ الربع الأول لعام 2016، وصل معدل انخفاضها مع نهاية الربع الثالث لعام 2016 إلى - 1.0 في المائة!
مؤشرات تتجاوز في حقيقتها مجرد تعثر القطاع الخاص عن النمو بالشروط التي حددها صندوق النقد الدولي (7 في المائة)، كي ينجح في زيادة التوظيف وتقليص معدل البطالة، إلى أن القطاع يواجه شبح انكماشه عوضا عن نموه المأمول، وأن معدل البطالة الأعلى بمستوياته الراهنة خلال الأعوام الأخيرة، في طريقه أيضا للارتفاع نتيجة ذلك الضعف أو الانكماش الظاهر على أداء القطاع الخاص، وقد تكون الصورة أكثر تعقيدا في المستقبل القريب بعد تدشين الأعباء الجديدة على كاهله، وهو ما يتطلب اتخاذ تدابير أكثر قوة لتحفيز القطاع، لمساعدته على امتصاص الآثار السلبية المحتمل قوتها على أدائه ونموه، عوضا عن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الناشئة عن مضي معدل البطالة في الارتفاع قياسا على تلك العلاقة بينه وبين النمو المأمول للقطاع الخاص.
يجب الاعتراف بأن القطاع الخاص لدينا، قطاع اعتاد على الرعاية الحكومية المفرطة، ممثلة في حوافز انخفاض تكلفة استهلاك الطاقة محليا، أفرز لدينا منشآت "مدمنة جدا" لتلك الحوافز، وقريبا سيواجه زوال تلك الرعاية. كما لا يمكن إغفال اعتماده المفرط سابقا على تدفقات المناقصات الحكومية، التي تواجه أيضا ترشيدا وإعادة هيكلة بالكامل في الوقت الراهن. إن من أهم ما يجب العمل عليه في الفترة الراهنة، البدء العملي لا مجرد الوعود أو الأقوال في دعم بيئة الاستثمار المحلية، وتشجيع رؤوس الأموال الوطنية نحو تأسيس مزيد من المشاريع الإنتاجية، وتسهيل الطريق أمامها بكل ما أوتينا من إمكانات وقدرات وموارد، وأن تبادر الدولة قبل غيرها بضخ رؤوس الأموال بالمشاركة مع القطاع الخاص، وهو ما يعني التركيز الأكبر لتوجيه الثروات والأموال نحو الداخل الاقتصادي المحلي، عوضا عن الخروج بها إلى الأسواق الخارجية، وفي رأيي ـــ خاصة في المرحلة الراهنة ـــ أن تأسيس عدة مشاريع وطنية ومحلية، أهم مليون مرة من تأسيس أي صناديق استثمارية خارجية! والمسألة هنا تحكمها الأولويات التنموية، والضرورة القصوى لترسيخ الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، قبل النظر إلى أولويات متأخرة الترتيب تتركز فقط على الجانب الاستثماري وخلافه!
سيلعب تأسيس المشاريع محليا أدوارا جوهرية وعديدة، تنطلق عوائدها المختلفة وإن أتى بعض عوائدها الاستثمارية خلال أول عشر سنوات دون المأمول، إلا أن عوائدها الاقتصادية والاجتماعية ستكون مصدرا بالغ الأهمية في الأجلين المتوسط والطويل، ويكفي القول إننا في سياق المقارنة بين أهمية العائد الاقتصادي والاجتماعي من جانب، والعائد الاستثماري من جانب آخر، أن العائد الأول بتحققه كاف جدا لامتصاص أية سلبيات لعدم تحقق العائد الآخر، بينما لا ولن تجدينا أبدا أي عوائد استثمارية خارجيا مهما بلغت نسبها مئويا، مقابل تحملنا خسائر طائلة اقتصاديا واجتماعيا في الداخل. لعلنا نستدرك فيما بقي من وقت ليس بالطويل، بالاعتماد على ما في أيدينا من موارد وفرص وإمكانات متاحة بعض ما فاتنا سابقا، والعمل من جديد تحت مظلة "رؤية 2030" على إعادة ترتيب الأولويات التنموية، ووضعها في مرتبة أكثر تقدما مقارنة ببقية الأولويات الأخرى، ليس فقط لأجل مواجهة معضلة "البطالة"، بل أيضا لإعادة إخراج هيكل الاقتصاد الوطني بأكمله على وجه وعمق أكثر تنوعا وصلابة واستقرارا. والله ولي التوفيق.
عبد الحميد العمري- الاقتصادية السعودية-