هناك تحولاتٌ كبيرة تشهدها المملكة العربية السعودية، لا تحتاج إلى عينٍ مدربةٍ لاكتشافها، لأن الواقع العملي يشير إلى وجود ديناميكيات جديدة، تؤسس لتحولاتٍ جوهرية وشاملة. ومن الطبيعي التسليم بأن صعود الملك سلمان بن عبد العزيز إلى عرش المملكة أتى في ظروف استثنائية وحرجة للغاية، وضعت المملكة أمام تحدياتٍ جادة ومختلفة في الجوانب الاقتصادية والسياسة الخارجية، وفي مسائل تتعلق بالأمن الخليجي والعربي.
وكان لذلك أثر كبير في الدفع المتسارع نحو الخروج عن المألوف القديم والمتراكم منذ عقود طويلة.
المملكة العربية السعودية دولة كبيرة ذات وزن محوري في اقتصاد العالم، وتلعب أدواراً كبيرةً في الملفات الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي كدولة مركزية رائدة.
وتعتبر، في الوقت نفسه، حليفاً استراتيجياً تقليدياً للولايات المتحدة، وتربطها علاقات شراكةٍ وثيقةٍ مع الدول الصناعية الكبرى.. أي أنها، بكل المقاييس، عضو فاعل في الأسرة الدولية، ليس فقط في مجالات الاقتصاد، وإنما بصورة خاصة على المستويات الأمنية والسياسية.
مثلت خطوة الانطلاق نحو تجديد مؤسسة الحكم والتهيئة للجيل الثالث (أحفاد الملك عبد العزيز) لتولي مقاليد السلطة، وما رافقها من قراراتٍ لإعادة هيكلة المؤسسات والتقسيمات داخل السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى التغييرات في بعض المناصب السيادية التي عُرفت بأنها حكرٌ على أفراد الأسرة الحاكمة نقلةً نوعيةً كبيرةً وفق منهجيةٍ متكاملةٍ، اعتبرها السعوديون مفتاحاً للاستقرار، وتجاوز أي شكوك حول صراعات أجنحة داخل البيت السعودي، والخروج من حالة الركود إلى الإصلاحات الضرورية.
كما اعتبرها المتابعون للشأن السياسي في السعودية نهايةً لحقبةٍ طويلة من توارث الأبناء. وهم على الرغم من خبراتهم، إلا أنهم، بحكم السن المتقدمة، لا يمتلكون حيويةً كافيةً لتجاوز حالة المحافظة على المألوف، ومقاربات الحذر المفرط في السياسات الداخلية والخارجية، على الرغم من تقلبات العصر والأزمنة.
أصبح بديهياً الآن أن الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو يحمل مشروعاً تأسيسياً لواقع الدولة السعودية "الثالثة"، سيكون آخر الملوك من جيل الأبناء، وعلى يده، وتحت وصايته، تم التجديد في ولاية العهد وولاية ولاية العهد لجيل الشباب، والدفع بهذا الجيل إلى أن يمثل القاطرة الجديدة في النظام السياسي نحو التغييرات الكبيرة، والخروج من "مرحلة ما بعد 1979"، كما وصفها أخيرا ولي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، إلى آفاق منفتحة على العالم المتجدد وتقلباته.
كان التغيير وما يزال هاجساً حقيقياً وحلم الشباب السعودي الذي يمثل النسبة الأكبر من سكان المملكة (تصل إلى 69% حسب منتدى جدة للموارد البشرية)، خصوصا أن دول العالم في عصر الثورات الرقمية تشهد تطوراً متسارعاً غير مسبوق في تاريخ الحضارة البشرية، وهذا يُحدث حالةً من التحديات أمام المجتمعات في البلدان النامية، بحيث تصبح عملية التغيير ضرورةً وجوديةً، وليست مجرد رغبة داخلية.
وهناك شرائح كبيرة من الأجيال الشابة التي تلقت العلوم والمعارف في أرقى جامعات العالم، وتشبعت بحيوية المجتمعات المتقدمة وتجاربها، على الأصعدة السياسية والاقتصادية، أصبحت تتطلع إلى أن تحظى بلادها بقدرٍ كافٍ من التحديث، وتسخير القدرات الكبيرة والموارد الطبيعية والبشرية، لتحقيق نهضةٍ معاصرةٍ تنعكس إيجاباً على الداخل، وعلى دول المنطقة.
تختلف السعودية اليوم، وفقاً للمؤشرات على الأرض، عن السعودية التي عرفها العالم من قبل، فهناك حراكٌ ملموسٌ في الجوانب الاقتصادية وفقاً للرؤية 2030، التي تمثل منهجاً استراتيجياً لتحديث القطاع الاقتصادي وتطويره، من خلال تنويع مصادر الدخل والتخطيط لقيام صناعاتٍ محلية في الجوانب المدنية والعسكرية، وتخفيض مستوى الاعتماد على الخارج.
وبما أن القوة الاقتصادية للمملكة تتمحور حول وجود احتياطاتٍ كبيرةٍ من النفط والغاز، فإن قاطرة النهضة المخطط لها ترتبط، بصورةٍ أوليةٍ، بسياسات الطاقة، فالأمر لا يقتصر على إعادة هيكلة القطاع، أو على برامج الخصخصة النسبية للشركة الوطنية كما حدّدتها الرؤية، وإنما بتبني سياساتٍ تهدف، بشكل رئيس، إلى تنويع المصادر وتنميتها، وهذا ما يتم تطبيقه في الوقت الراهن، لتصبح المملكة خلال سنوات قليلة (حتى عام 2023) دولة رائدة، وأكبر سوق إقليمي لتصنيع التقنيات الخاصة بالطاقة المتجدّدة وتصديرها.
وهناك مشاريع مختلفة، تشمل التوسع في تطوير حقول الغاز، وأخرى تتعلق بقطاع التعدين الذي سيلعب دوراً كبيراً في المرحلة المقبلة، فالمملكة ليست غنيةً بالموارد البترولية وحسب، بل لديها احتياطيات كبيرة من المعادن النفيسة والمعادن الصناعية، ويكتسب هذا القطاع قيمةً إضافيةً كبيرةً من خلال استغلال الصناعات الاستخراجية والإنتاجية للمواد الخام.
ويلمس المتابع للتحولات التي تقودها حكومة المملكة أن هناك انفتاحاً على الصناعات الترفيهية في الفترة الأخيرة، بمضامينها الاقتصادية والاجتماعية، ولا تقتصر على البرامج والفعاليات الاجتماعية، بل هناك خطط لبناء مدنٍ تلبي احتياجات السياحة الداخلية والنشاطات الثقافية، ما يشكل إضافة نوعية في مسار التحولات الاجتماعية، فالمملكة السعودية، من زاويةٍ مكملة، تدرك تماماً أن الوقت قد حان لتجاوز حالة الانكفاء على الموروث، وأن المجتمع بحاجةٍ إلى تنمية القيم المعاصرة، لتواكب حقائق العالم الجديد وفضاءاته المفتوحة.
ومع تلك التحولات الكبيرة التي تشهدها المملكة السعودية، لا يمكن تجاوز التحدّيات التي فرضها الراهن العربي، وبصورة خاصة التداعيات الكبيرة لعملية الانتقال السياسي في اليمن والانقلاب الذي أطاح الدولة ومؤسساتها، ما دفع المملكة إلى أن تقود تحالفاً عربياً لاستعادة اليمن المختطف.
وقد مثلت عملية عاصفة الحزم العسكرية ترجمةً فعليةً لحجم التغيير في المنهج السعودي، للتعامل مع التهديدات الخارجية باعتبار أن ما يحدث في اليمن يمسّ أمن دول الإقليم وسيادتها بصورة مباشرة، ولم تعد سياسات الاحتواء الناعم والسلبي تجدي نفعاً في الملفات الجيوستراتيجية، خصوصا أن اختطاف الدولة التاريخية الرابضة في جنوب المملكة أمر تجاوز كل الخطوط الحمراء.
اعتقد الانقلابيون أن السعودية ستتعامل وفقاً للمقاربات المألوفة في الأرشيف السياسي، ولم يتوقع أحدٌ هذه الوثبة الكبرى لقادة المملكة، باتجاه التعامل الفوري الميداني لمواجهة الوضع، وتحمل كل الأعباء والمخاطرات.
من زاوية مقابلة، لعملية عاصفة الحزم انعكاساتٌ على الداخل السعودي، ستأخذ مداها الطويل في الجوانب الاقتصادية والسياسية، ولكنها مع ذلك تمثل ربما إحدى أقوى الدوافع إلى أن تمضي المملكة باتجاه التغييرات الجذرية على كل الأصعدة، والتجديد المستمر في السياسات، وفي القيادات، كما هو الحال في الوقت الحاضر.
في المحصلة، يمكن القول إن هناك تحديات جسيمة، ليس بفعل "عاصفة الحزم" وحسب، ولكنها تنبع من أن المنطقة العربية تمر بمرحلةٍ انتقاليةٍ تاريخية، وأمامها "مجاهيل" مختلفة، وأن دول العالم، وفي مقدمتها الدول الصناعية الكبرى، تواجه تقلباتٍ غير مسبوقة في الحياة السياسية الداخلية، بأدواتها الحزبية التقليدية، ما يؤثر، في المدى البعيد، على علاقاتها بدول المنطقة.
أحمد عبد الله- العربي الجديد-