فارع المسلمي- السفير العربي-
صباح السابع عشر من حزيران/ يونيو المنصرم سألتُ أحد الدبلوماسيين الغربيين في أحدى ردهات فندق فخم في الرياض: "أي المحمدين سيقصي الآخر أولاً؟" محمد بن سلمان ولي ولي العهد – حينها - أم محمد بن نايف ولي العهد.
كان السؤال على ما يبدو متداولاً وشائعاً، والشغل الشاغل للدبلوماسيين الغربيين في العاصمة السعودية الممتلئة بالنفط والأمراء. أجاب الدبلوماسي: "إنه سؤال المليون دولار حالياً".
كان إقصاء محمد بن نايف، الأمير المخضرم والرجل القوي في المملكة والمنطقة لصالح إبن عمه محمد بن سلمان، 32 عاما، ونجل الملك الحالي، أمراً منتظراً. على أن القليلين توقعوا قراراً بعزل بن نايف بهذه السرعة وبهذه الطريقة، إذ لم يشر المرسوم الملكي إلى "إعفائه بناء على طلبه" كما درجت العادة عند إقالة أي أمير من منصبه، بما في ذلك ولي العهد السابق الأمير مقرن بن عبدالعزيز الذي تمت إقالته لصالح بن نايف في 2015.
ولاضفاء شرعية على القرار، شددت وكالة الأنباء السعودية على أن 31 من أصل 35 من أعضاء هيئة البيعة وافقوا على التعيين.
لم يكن صعود بن سلمان مفاجئاً تماماً، فمنذ مطلع العام 2015، تصدر الأمير الشاب أعلى المناصب في بلاده بدءاً بوزارة الدفاع ذات الميزانية المفتوحة والمغلقة (السرية) في الوقت نفسه، والمجلس الاقتصادي الأعلى الذي يسيطر على أرامكو، شركة النفط العملاقة التي تتعامل مع ثلث احتياطي نفط العالم.
وفي أواخر العام المنصرم دشن بن سلمان ما أسماه "2030"، كرؤية استراتيجية للمملكة العربية السعودية، وبدت كبرنامج اجتماعي وتنموي غازل الكثير من الشباب في المملكة، خاصة أولئك الذين شعروا أنهم تخلفوا عن ركب رفاقهم في الربيع العربي في باقي المنطقة.
الحدث.. وما سبقه
لاحقاً، بدت ميزانية العام 2017، وقبلها تلك العائدة للعام 2016 أشبه بميزانية لدولتين، واحدة تخضع لمؤسسات وبيروقراطيات بن نايف وأخرى لمؤسسات بن سلمان التي أنشأها أو غرس رجاله فيها مؤخراً. وقبل التغييرات الأخيرة، اتخذت سلسلة قرارات لنشر رجال بن سلمان على امتداد المؤسسات الأمنية والإيرادية، علاوة على صفقات أسلحة بمئات المليارات من الدولارات، أسالت لعاب الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة بزعيمها الشعبوي والجشع والمفاجئ دونالد ترامب.
وبالنسبة للمتفائلين ، فقد ينهي هذا الصعود للعرش الانقسام غير المعلن في القرار داخل السعودية والتي بدت أحياناً كأنها دولة برأسين منذ احتدام المنافسة بين الرجلين.
في صباح 21 حزيران/ يونيو جاءت اللحظة الحاسمة في تاريخ المملكة، وتاريخ بن سلمان تحديداً: بعد الانتهاء من "السحور" وقرابة السادسة صباحاً صدرت المراسيم الملكية المباغتة التي قضت بعزل بن نايف وتصعيد بن سلمان وتعديلات وزارية أخذت من بن نايف جميع مناصبه، بما في ذلك ــ أو الأهم حتى من ولاية العهد نفسها ــ وزارة الداخلية صاحبة السلطة الأعلى في المملكة ومعقل بن نايف المنيع حتى أن البعض يطلق على أفرادها "جيل بن نايف" إذ كان قد طعمها بجيل جديد بعد وراثتها بقرار ملكي عن والده المتوفي.
اشتعل تويتر (برلمان السعوديين الصاخب) فوراً بعد صدور القرارات، بين ترحيب الكثير من المواطنين السعوديين ودعوات أكثر للبلاد بالنجاة والسلامة وشكر بن نايف على ما قدمه. كما لم يخف كثيرون توجسهم من هذا الاندفاع الداخلي غير المسبوق في المملكة، بعد اندفاع غير مسبوق آخر تمثل بدخول الرياض (على غير عادتها) في حرب مباشرة على الأراضي اليمنية في 26 آذار/ مارس2015.
ومن الواضح أن بن نايف نفسه كان متفاجئاً، إذ كان قبل تلك القرارات بساعات قليلة يمارس عمله بشكل طبيعي مستقبلاً ومودعاً الرؤساء والزعماء الذين يؤدون مناسك العمرة في مكة المكرمة.
كذلك لم يخفِ الغربيون قلقهم، وإن رحبوا جميعا بالقرارات. كان بن نايف قد سارع خلال ساعات لحذف صفته كولي للعهد من حسابه على تويتر ( يحتوي تغريدتين فقط وأكثر من مليون متابع) والاكتفاء بـ"الرياض" ملحقة بالاسم. وبن نايف هو أهم رجل أمن بالنسبة للغرب في العالم الإسلامي والخليج تحديداً، وقد كرمته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أواخر العام المنصرم بأعلى الدروع لديها تقديرا لجهوده.
كان الرجل يتعامل مع الغرب بصفته رجل المعلومات الأول في المنطقة، خاصة المعلومات الاستخباراتية حول مكافحة الإرهاب. ويفسر ذلك قلق الأجهزة الأمنية غرباً، مع احتفاء - أو حيادية - الأجهزة الدبلوماسية والاقتصادية.
في ذلك الصباح، بل في المساء الذي سبقه، لم يكن الوضع مختلفاً في المملكة، باستثناء تشديدات أمنية صارمة يمكن تفسيرها باقتراب عيد الفطر. وبعد أقل من 24 ساعة، اختفت بسرعة استثنائية اللوحات في المحلات التجارية والشوارع على امتداد الرياض، المدينة الأوسع والأحدث في السعودية. كانت اللوحات تحمل صور الثلاثة ( الملك سلمان، ولي العهد بن نايف، وولي ولي العهد بن سلمان) واستبدلت بصور جديدة تحمل فقط صور الملك وولي العهد الجديد حاملة شعار "بايعناك".
وللترتيب بشكل كامل، أعلن المرسوم الملكي نفسه تمديد إجازة العيد إلى 14 شوال كما أعاد ــ بأثر رجعي ــ جميع العلاوات والمستحقات المالية التي كانت قد أسقطت قبل أشهر عن موظفي الدولة.
بالمجمل، فإن الأسرة الحاكمة في السعودية تحرص على استمرار الحكم داخل الأسرة بشكله الحالي، حتى وإن كان بعضهم ساخطاً من دون أن يبدو أن ذلك سيتغير.
هل ينجح بن سلمان؟
قد يمتلك محمد بن سلمان فرصة لقيادة بلاده، إلا أنه يواجه حاليا تحديين أساسيين:
الأول هو حرب اليمن، وكما تقول الأغنية الشهيرة للفنان أبو بكر سالم بلفقيه "بين عيني وبين النوم بادي ( أي حرب)"، فإن بين بن سلمان وبين العرش حرب اليمن. كان السبب السعودي الداخلي لحرب اليمن على ما يبدو هو إيجاد مصعد لمحمد بن سلمان كوزير للدفاع يرفعه عالياً نحو العرش.
ومع بداية الحرب قدمته وسائل الإعلام السعودية والخليجية كأب روحي لهذه الحرب، قبل أن يتراجع ارتباطه العلني بها مع تعثرها وارتفاع كلفتها الإنسانية والمادية، والأهم من ذلك الصورة الخطيرة التي سادت باعتبار اليمن "فيتنام" السعودية. وقد تحفظ بن سلمان إلى حد نفيه في مقابلة مع جريدة الاكينومست بعد بدء الحرب بأشهر أنه صانعها، قائلاً أنها تصادفت فحسب مع تعيينه في الوزارة ولم تكن قراراً اتخذه هو.
ومع اقترابه من العرش، قد ينهي بن سلمان هذه الحرب، بل أنه في اجتماع عقد بمكة بعد ساعات من توليه ولاية العهد، حاول إبرام صفقة مع الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي. تضمنت الأفكار ــ ضمن أفكار أخرى ــ بقاء هادي في السعودية وتعيين نائب جديد له، والتفاوض لفترة زمنية لا تزيد عن أسبوعين، قبل أن يعطل هادي الفكرة، كعادته في تعطيل أي انتصار أو سلام بحرب اليمن.
وعلى أية حال، تبقى حرب اليمن وصمة الملك القادم الكبرى في المنطقة والعالم. وهي مشكلة تطارد السعوديين غربياً وعالمياً وإنسانياً وحتى دبلوماسياً. ويمكن القول أنها مرتبطة بالذهن الغربي ببن سلمان أكثر من رؤيته (2030). وفي حال أراد بن سلمان الوصول للعرش والاستمرار فيه، فإن ذلك سيتطلب منه إنهاء حرب اليمن فوراً.
أما التحدي الآخر فهو داخلي. في اليوم التالي لتعيين بن سلمان ولياً للعهد، قضيت فترة قبل الافطار مع شباب من السعوديين الليبراليين المهتمين بالفن والأفلام والسينما. لم يكونوا متفاجئين تماماً بصعود بن سلمان، كما لم يكونوا بالضرورة ساخطين. كان محمد بن سلمان قد نجح في قراراته السابقة بتجريد الشرطة الدينية ("هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر") من صلاحيتها في القبض على مواطنين دون أمر نيابي مسبق.
ومثَّل ذلك واحدة من أكبر قفزات الملك الشاب نحو تحديث المملكة وعربون لا يستهان به لكافة شرائح المجتمع السعودي، والشباب منهم في المقدمة، خاصة في مناطق الحجاز كجدة، وهي الأكثر انفتاحاً والتي كانت ترى الهيئة ــ التي لا تخضع لأي سلطات ــ ككابوسٍ يطارد حريات أبنائها الشخصية والاجتماعية ليلاً ونهاراً.
ويصف أحد هؤلاء الشباب الحياة والحريات الاجتماعية والشخصية قبل ذلك القرار، بأنها "مسدس روسي له عجلة بخمس طلقات" ومغامرة لا تحمد عقباها وغير مأمونة العواقب البتة.
إلا أن ما تفتقره (2030) ورؤية بن سلمان للشباب هي الحريات السياسية. والتجارب تؤكد أن كل وصفات الإصلاح الاجتماعي والتسويق السياسي لا تنجح ولا تحافظ على الأنظمة إذا لم تشمل الحقوق السياسية الاساسية.
وفي الأولويات العشر لأحمد علي عبد الله صالح باليمن عام 2008 ، ورؤى جمال مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس الذي تغنى البنك الدولي بمؤشرات النمو الاقتصادي لبلاده، دروساً وافية لمن يعتبر.
إذ احتوت تلك الرؤى ووصفات الإصلاح على الكثير من الوعود والآمال المشابهة ل2030، باستثناء الحقوق السياسية، وهي لذلك لم يكن ممكناً أن تنجح. ويتفق هؤلاء الشباب في تقييمهم بأن الحريات السياسية أكثر ضيقاً منذ وفاة الملك عبد الله (أوائل العام2015) والذي تمتع بنفس أكثر طولاً من غيره في تقبل الرأي الآخر واحتواء معارضيه وترك هامش مقبول (بمقاييس السعودية) للعديد من فئات المجتمع.
قبل غروب شمس يوم القرارات تلك، كنت قد توجهت إلى مدينة الدرعية على أطراف الرياض، في محاولة للغوص في تاريخ هذه الأسرة والبلاد عامة. والدرعية هي أول عاصمة لحكم آل سعود خلال الفترة (1744ــ1818) وموطن أول دولة لآل سعود تحاربوا فيها مع الأتراك.
بدت الدرعية أصغر من مدينة وكأنها قرية هادئة للغاية، بها بقايا من التاريخ وبيوت مهترئة من الطين محاطة بقصر فخم لا علاقة له بالمكان أو الزمان، وكأنها تراقب بصمت وحيرة مدينة الرياض الجديدة الغنية بالمباني والقصور والأبراج مقابل اشجار النخيل غير المثمرة، والقيظ الشديد الخالي من المكيفات، والغبار الكثيف المنذر أحياناً بمطر، وأحيانا أخرى بعواصف ترابية فقط.
المقارنة بين دولة آل سعود بعاصمتها الدرعية التي أنهاها الأتراك على يد نجل والي مصر محمد علي باشا يومها (1818)، ودولة آل سعود الثالثة التي تتمركز اليوم في الرياض، تبدو قريبة جدا من المقارنة بين الدرعية والرياض بالمعايير المادية ودرجة الاتساع.
والشاب الجديد الذي قد يصل إلى العرش قريباً، قد يماثل أحدث الابراج في الرياض مقارنة بابن سعود المؤسس، الذي يماثل بناية طينية في الدرعية، ويشكل في الوقت ذاته مؤسساً جديدا للمملكة بعد توقف سلسلة أبناء عبد العزيز المباشرين التي حكمت منذ 1953 حتى اليوم، بانتهاء عهد الملك سلمان كما تؤكد مؤشرات اللحظة الراهنة.