سعيد الشهابي- القدس العربي-
سيظل مستقبل المنطقة مضطربا ما دام الغموض يلف اوضاع البلد الاكبر في الجزيرة العربية. فلم تمر المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها قبل 85 عاما بحالة اكثر اضطرابا مما هي عليه الآن.
وقد لا يكون ذلك غريبا في ظل حكم يهيمن عليه شاب يتحرك بايحاءات متعددة المنطلقات، وتمتد من الخارج إلى الداخل، ويتداخل فيها المحلي مع الإقليمي والدولي. ويوما بعد آخر تكشف تصريحات المسؤولين ومبادراتهم توجهات يصعب التنبؤ بما ستؤول اليه خصوصا على صعيد امن المملكة واستقرارها وتوجهها.
فكل ما يبدو من قضايا ومواقف محسومة تبدو لوهلة أخرى أنها ليست كذلك، بل تخضع للظروف المستقبلية. فالبلدان اما ان تكون جامدة محصورة ببعدها القطري، أو متحركة لتحقيق نفوذ إقليمي او ذات مشروع دولي يفرض عليها دبلوماسية وسياسات مختلفة.
ويمكن القول إن التصريح الذي أدلى به ولي العهد، محمد بن سلمان، الأسبوع الماضي بأن المملكة ستعود إلى مرحلة «ما قبل التطرف» يمثل أحد أمرين:
- أما ان يكون تصريحا من اجل تهدئة خواطر الحلفاء والرأي العام الذي يتهم نظامه بترويج ثقافة التطرف والتكفير في العالم،
- أو أن وراءه توجها جادا للخروج من المرحلة التي استمرت 40 عاما وفرت للسعودية نفوذا دينيا واسعا في اغلب البلدان الإسلامية.
أيا كان الامر فان التصريح يؤكد الاتهامات التي وجهت للسعودية منذ زمن بانها ترعى تطرفًا أدى إلى تنامي ظاهرة الإرهاب. وربما حاول ولي العهد السعودي في تصريحه الإيحاء بأن ظاهرة الصحوة الإسلامية التي جاءت بالتناغم مع الثورة الإسلامية في إيران مسؤولة عما حدث لاحقا.
لكن تجدر الإشارة إلى ان حادثة الحرم التي قادها جهيمان العتيبي حدثت في مطلع القرن الهجري الخامس عشر (الاول من محرم 1400 هـ) كان التمظهر السياسي الاول للظاهرة السلفية التي ترعرعت تدريجيا حتى تمخضت عنها حركات متطرفة كثيرا.
في شهر تموز/يوليو الماضي قالت دراسة أعدتها «جمعية هنري جاكسون»، التي تركز على حقوق الإنسان والعلاقات الدولية إن السعودية: «رعت جهودا تقدر قيمتها بملايين الدولارات لتصدير الإسلام "الوهابي" إلى المسلمين حول العالم، بما في ذلك الجاليات المسلمة في الغرب».
وقالت إن السعودية تدير العديد من الجمعيات الخيرية الكبرى التي تمول التعليم الإسلامي في أنحاء العالم، بما في ذلك بريطانيا، وأنفقت ما لا يقل عن 67 مليار جنيه استرليني (87 مليار دولار) على هذه البرامج خلال الخمسين عاما الماضية.
توضيحًا لإشكالية الدولة في ظل التجربة السعودية يمكن عرض عدد من توجهات الكيانات السياسية القائمة في العالم:
أولا: ان الدولة ذات المشروع السياسي او الايديولوجي العالمي تختلف عن الدولة القطرية التي تنتهي اطماعها عند حدودها وتؤسس سياساتها ضمن ما يحمي تلك الحدود. فالاتحاد السوفياتي السابق كانت لديه ايديولوجية ساهمت في مد نفوذه إلى كافة بلدان العالم، وما تزال بقايا الايديولوجيا الشيوعية تشير إلى الامبراطورية السوفياتية التي تلاشت قبل اقل من ثلاثة عقود.
أما النفوذ الروسي الحالي فقد تطور نتيجة الاحباط الذي يسود العالم بسبب السياسات الأمريكية التي تعتمد سياسات القهر والغلبة بدلا من طرح مشاريع إنسانية تتناغم مع تطلعات الشعوب أو تسعى لحماية كوكب الارض من شرور التداعي البيئي والمناخي.
بينما اتجهت الصين بشيوعيتها نحو الداخل، واستطاعت اقامة دولة حديثة ذات نفوذ اقتصادي هائل.
أما الغرب فيستمد نفوذه من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما لملم شمله وروج نظريته الرأسمالية وانظمته المالية والعسكرية. هذا النفوذ اصبح يتلاشى تدريجيا منذ ان تخلى «العالم الحر» عن المبادئ والقيم التي اقرها على مدى العقود السبعة التي اعقبت الحرب.
فمع تراجع النظام المصرفي الذي يمثل العمود الفقري للنظام الرأسمالي، وتهميش مشاريع الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم، لم يبق لدى الغرب شعارات براقة تستهوي شعوب العالم خصوصا مع انتشار الظلم والاستبداد والهيمنة المالية والسياسية للغرب ووكلائه الإقليميين.
ولدى إيران مشروع ايديولوجي يمثله ما يسمى «الإسلام السياسي» الهادف لاقامة منظومة سياسية مؤسسة على الإسلام. وقد وفر لها ذلك نفوذا في مناطق واسعة من العالم. وفي مقابلها توسع النفوذ السعودي بعد ان وفرت له الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات وسيلة لترويج المذهب الوهابي في بلدان العالم الإسلامي.
ثانيا: ان الدول التي تنكفيء على الذات يتراجع نفوذها الإقليمي والدولي، على عكس الدولة المعنية بنشر أيديولوجية واضحة ذات أبعاد تتجاوز حدود القطر. وكلما كانت هذه الأيديولوجية أممية تلاشت الحدود الجغرافية امام تمددها.
فمصر عبد الناصر كان لديها المشروع القومي العربي الذي تناغمت معه قطاعات واسعة من العرب. السبب انه كان آنذاك مشروعا ثوريا تبنى مشروع التحرر الوطني والتصدي للاستعمار منسجما مع حركات التحرر التي انتشرت في افريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن مصر بعد عبد الناصر تلاشى نفوذها كثيرا، خصوصا بعد ان وقعت اتفاق السلام مع «اسرائيل» قبل قرابة اربعين عاما. وأصبحت هذه الدولة العربية الكبرى تحت رحمة الدعم المالي الاماراتي والسعودي بشكل خاص.
وأصبح حكامها مستعدين للتخلي عن اراض مصرية مثل جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في مقابل الدعم المالي للعسكر. كانت مصر حاملة لواء تحرير فلسطين، ودخلت حروبا عديدة ضد الاحتلال، الامر الذي جعلها قبلة لعشاق الحرية عقودا.
لكن ما شأن مصر اليوم بعد ان اصبحت اسيرة للمال النفطي؟
ما المبرر الذي يقدمه عسكرها لتبرير المشاركة في الحرب على اليمن استجابة لنزوة سعودية في التوسع، وهي الارض التي كانت مشهدا لصراع النفوذ بين مصر والسعودية قبل اكثر من نصف قرن؟
يومها كان هناك مشروعان متصارعان: مصري وسعودي، ولذلك احتدم الصدام بينهما وأدى إلى حرب مدمرة استمرت بضع سنوات.
مصر اليوم لم تعد مؤثرة حتى على الدول المحيطة بها مثل ليبيا والسودان، السبب افتقادها لمشروع ايديولوجي أو سياسي بعد أن قرر عسكرها التخلي عن مشروع التحول الديمقراطي وفرض استبداد عسكري غير مسبوق.
ثالثا: ان الايديولوجيا ضرورة لتوسيع النفوذ والتمدد. اما المال والقوة العسكرية فانها لا تضمن توسع النفوذ الا باستمرار عسكرة الاوضاع وشن الحروب وخلق الفتن. فالايديولوجيا تؤثر على العقول وتصنع تيارات بشرية تحملها وتسعى لتفعيلها على ارض الواقع. وغيابها يحاصر اي مشروع سياسي توسعي لدى الدولة. فالامارات مثلا وسعت نفوذها في السنوات الاخيرة بشكل غير محدود.
لكنه تمدد غير مدعوم بايديولوجيا ويعتمد أساسا على الوفرة المالية التي وفرها الدخل النفطي الهائل. وفي السنوات السبع الأخيرة تواصل التمدد الاماراتي بمعدلات غير مسبوقة. فقد تدخلت عسكريا في ليبيا لدعم قوات حفتر وقصفت مواقع للمجموعات الاخرى.
ودعمت الانقلاب العسكري في مصر الذي اسقط محمد مرسي ودخل في حرب شرسة مع الاخوان المسلمون. وفي 2015 وقعت حكومة أوكرانيا مع دولة الإمارات اتفاقية لشراء أسلحة وصفتها بالدفاعية، متجاوزة بذلك تردد الغرب في تزويد القوات الأوكرانية بالسلاح لمساعدتها في مواجهة معارضيها المدعومين من روسيا.
وأكد الرئيس الأوكراني بيترو بروشينكو أمام المؤتمر والمعرض الدولي للصناعات الدفاعية في الإمارات على أنها ستساعد بلاده في حماية أرضها من اولئك المعارضين. وتشارك الامارات بشكل فاعل في الحرب التي يشنها التحالف بقيادة السعودية على اليمن، وتسيطر على مناطق واسعة بما فيها عدن. مع ذلك لا يتوقع ان يكون للإمارات مشروع أيديولوجي حقيقي يصنع جمهورا او يخلق رأيا عاما فاعلا.
فالاموال تجذب موظفين يعملون بأجور، اما الايديولوجيا فتدفع معتنقيها للعمل الحثيث الذي كثيرا ما يكون تطوعيا وبدون مقابل. بل ان من يحملها بقناعة يضحي بنفسه من اجلها. اما الموظفون فيدعمون صاحب المشروع طالما ضمنوا رواتبهم، وقد لا يكونون مقتنعين أساسا بمشروع الدولة الداعمة.
رابعا: ان مشروع ولي العهد السعودي محاولة لتسويق شخصه وقد يكون خطة ليس للاطاحة به فحسب بل لضرب المملكة نفسها. فما يسمى «رؤية 2030» مشروع اقتصادي بحت، ترافقه رؤى «اصلاحية» محدودة بدأت بمنح المرأة السعودية حق قيادة السيارة.
وقوة السعودية التي تشكلت خلال العقود الاربعة الاخيرة ليست نابعة من المال النفطي فحسب، بل من المشروع الديني الذي بثته في العالم. وعلى خلاف ما تتهم به دولة قطر، فقد اعتبرت السعودية التنظيمات المتطرفة والإرهابية أذرعا ضاربة. على السعودية انهاء الازمة التي افتعلتها مع قطر والبدء باصلاحات سياسية داخلية حقيقية. والا فسينتهي مجلس التعاون، وبموازاة ذلك، ستكون السعودية في صراع حتى مع حلفائها في الامارات. فهل هذه رؤية 2030؟