ابراهيم محمد- DW- عربية-
مشاريع ضخمة بتكاليف خيالية طرحها الأمير محمد بن سلمان في إطار "رؤية 2030" لتحديث الاقتصاد السعودي الذي ينخره الفساد والمحسوبية، ما مصير هذه المشاريع بعد اعتقالات طالت أركان الحكم الذي يتربع والده على عرشه بصلاحيات مطلقة؟
على غير ما يرى الكاتب والمحلل الفلسطيني المعروف عبد الباري عطوان فإن تشبيه أسلوب حكم ولي العهد السعودي الأمير "السوبرمان" محمد بن سلمان بالرئيس الروسي بوتين أو بنظيره الروسي شي جيبينغ ليس في مكانه. غير أن الأمير الشاب المغامر والطموح أقوى شخص في مملكة يسود فيها نظام حكم مطلق دون أحزاب وبرلمانات وسلطة قضائية مستقلة. وإذا لم يكن الأمر كذلك ما كان بالإمكان صدور أمر ملكي باعتقال وتوقيف عشرات الأمراء والوزراء ورجال الأعمال النافذين وتجميد حساباتهم بتهمة الفساد دون أمر قضائي يشير إلى الأدلة مع أن التهمة في محلها.
كما عين الملك ابنه ولي العهد على رأس لجنة عليا متخصصة بمكافحة هذه الآفة التي تنخر اقتصاد المملكة الذي يقوم على المحاباة والمحسوبيات بشكل واسع. والأمير ولي العهد نفسه ليس ببعيد عن ذلك وهو الذي اشترى العام الماضي 2016 يختاً بتكلفة وصلت إلى 550 مليون دولار رغم سياسة التقشف التي فرضت الضرائب وخفضت الرواتب ورفعت الأسعار وألغت وأفلست الكثير من المشاريع والشركات، كما قالت الصحافة الإنجليزية في حينه.
الهروب من خطر الملاحقة
حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات السعودية بأمر الملك وتنفيذ نجله شملت حتى الآن أكثر من 200 شخصية وجمدت أكثر من 1700 حساب مصرفي. هذه الحملة هزت أسواق المال والأسهم السعودية والخليجية وألحقت بها خسائر كبيرة، ولولا تدخل صناديق مرتبطة بالحكومة السعودية لتعويض الأموال التي تم سحبها وإعادة شراء الأسهم التي تخلص أصحابها منها لساد الذعر في الأسواق.
وللتدليل على حجم الخسائر تفيد المعطيات الأولية المتوفرة أن "شركة "المملكة القابضة" التابعة للأمير الوليد بن طلال خسرت لوحدها 2 مليار دولار في غضون أيام قليلة. وتزداد مخاوف عالم المال والأعمال السعودي والخليجي بشكل خاص كون الاعتقالات طالت أمراء ورجال أعمال وإعلام كان لها باع طويل في الاقتصاد السعودي ورأس السلطة السياسية والإعلامية على مدى عقود أمثال الأمير الوليد وإبراهيم العساف وصالح كامل ومحمد العمودي ومتعب بن عبدالله. وهو الأمر الذي يدفع وبشكل متزايد أغنياء ومستثمرين سعوديين وشركائهم الأجانب إلى تصفية أصولهم في السعودية والإمارات ودول الخليج الأخرى خوفاً من أن تطالها التحقيقات. وجاء هذه الإجراء بعد استجابة السلطات الإماراتية لطلب سعودي بتقديم معلومات عن حسابات مواطنين سعوديين لديهم قد يكون مقدمة لتجميد حساباتهم.
مصير مشاريع رؤية 2030؟
تتزامن حملة الاعتقالات وتجميد الحسابات في وقت يحتاج فيه الأمير إلى أموال طائلة لتنفيذ المشاريع الضخمة لخطته الاقتصادية الطموحة "رؤية 2030" بالاعتماد على صندوق سيادي استثماري يصل رأسماله إلى 2500 مليار دولار. ومن أبرز هذه المشاريع مشروع مدينة المستقبل "نيوم" الذي يكلف لوحده أكثر من 500 مليار دولار ينبغي أن يأتي أغليها من الاستثمارات الخاصة.
ومن هنا يطرح السؤال نفسه، كيف سيتمكن الأمير من تنفيذ مشاريع الخطة في وقت تراجعت فيه الاحتياطات المالية السيادية إلى أقل من 500 مليار دولار بينما يتزايد فيه هروب رؤوس الأموال بعد الاعتقالات الأخيرة؟
من المؤكد أن أموال الفساد في السعودية تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، غير أنها في غالبيتها موجودة في أوروبا والولايات المتحدة والجنات الضريبية تحت أسماء وعناوين لا تدل في أحيان كثيرة على أصحابها الفعليين. أما الأموال المعرضة للمصادرة داخل المملكة بتهمة الفساد حسب مصادر قضائية سعودية فإن قيمتها تقدر بنحو 100 مليار دولار.
ولا يعادل هذا المبلغ سوى نصف العجز التي واجهته الميزانية السعودية بعد الحرب السعودية على اليمن التي تكلفها المليارات شهرياً. ومن هنا يمكن القول ورغم أهمية أموال الكسب غير المشروع ومحاربة الفساد، فإن اعتقال أمراء نافذين ومقربين منهم مرده إلى صراع على السلطة وتصفية للحسابات أكثر منه محاربة للفساد المستشري في جسم الاقتصاد السعودي.
وإذا كان الأمير الطموح يريد فعلياً محاربة الفساد بشكل شامل وغير انتقائي، فلماذا تم تعيين كلاوس كلاينفيلد المدير التنفيذي السابق لشركة "سيمنس" الألمانية رئيساً تنفيذياً لمشروع "نيوم"؟ والمعروف أن الشركة الألمانية شهدت خلال ولايته أكبر عملية فساد في تاريخها أدت إلى استقالته وتغريمها بملايين الدولارات.
هل هذا محاربة للفساد؟
تعد محاربة الفساد أمراً لا غنى عنه لنجاح مشاريع "رؤية 2030" وإصلاح الاقتصاد السعودي الذي يقدم امتيازات بالولادة لنحو 10 آلاف أمير وعائلاتهم على ضوء انتمائهم لعائلة آل سعود الحاكمة. كما أن الشخصيات التي شملها الاعتقال كسبت المليارات بشكل غير مشروع.
غير أن المشكلة في أن تتم المحاربة بشكل انتقائي وبشكل تشتهم منه رائحة تصفية الحسابات أكثر منه رغبة في تعزيز الثقة بمناخ الاستثمار لدى رجال الأعمال المحليين والأجانب الذين لا غنى عنهم لتنفيذ مشاريع الرؤية وتشغيلها وإدارتها. فمناخ الاستثمار الذي يقوم على الانتقائية وغياب الاطار السياسي التعددي والقضائي المستقل هو مناخ طارد للاستثمار. قد يقول قائل إن لدى الأمير والمؤيدين لها الأمراء ورجال الأعمال مصادر مالية كافية من خطوات الإصلاح التي تشمل التقشف ورفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات وفرض الضرائب إضافة إلى بيع جزء من شركة "أرامكو" العملاقة في البورصات العالمية. كل هذا صحيح، غير أن المال لوحده لا يكفي لبناء مشاريع مستدامة تتحول بقدراتها الذاتية إلى قاطرة لتنمية شاملة تؤدي إلى تنويع مصادر الدخل وتحويل مملكة متزمتة تقوم على الامتيازات إلى "دولة معتدلة" باقتصاد مزدهر يقوم على التعددية وتكافؤ الفرص.
وهنا لا بد من التذكير أن الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز ترقى إلى دفة الحكم في تسعينات القرن الماضي أيضاً تحت شعار محاربة الفساد وتحديث المملكة وجعلها أكثر انفتاحاً على العالم، غير أن حصيلة حكمه في هذا المجال كانت أكثر من مخيبة لأمال الداعمين للإصلاح في بلاده.