محمد المزيني- الحياة السعودية-
الجرب من الأمراض المعدية التي عرفتها الجزيرة العربية تحديداً في ما مضى من سنوات القحط، وأصبح مرتبطا بالذاكرة الشعبية عِبرة من العِبر التي تتناقلها الأجيال. لن أبحث هنا عن أسبابه ومسبباته التفصيلية ما دام مرتبطاً بالحالة الصحية المرتبطة بالحالة الاقتصادية المرتبطة بمعدلات نمو البلد وتطوره، فلو ذُكر مثلاً تفشي الجرب في بلاد «المجاعات» و«الحروب» كأفريقيا مثلاً لما استغربنا ذلك وأحلناه إلى هذين العاملين، ولو ذُكر مثلا أن «الجرب» يتفشى في دولة من الدول المتقدمة أو الآخذة بأسباب النهوض لاستغربنا ذلك وأحلناه إلى أسباب أخرى غير الفقر والحروب. فماذا عساها تكون بالله! الكارثة الكبرى أن «الجرب» لدينا لم يتفشّ في قرى نائية تعاني من حالة فقر أو شح في أدوات النظافة، بل في مدينة دينية تاريخية عريقة، وفي أهم المرافق فيها وهو فصول التعليم، أيا كانت الأسباب التي تحاول وزارة الصحة وأمانة العاصمة المقدسة ووزارة التعليم طرحها في مقدمة «عربة الأعذار»، فهذا لا يعفيها من مسؤولية تدني الصحة في المجمعات السكنية وداخل الأحياء العشوائية والمدارس، ولعل ما يثير التساؤلات الكبيرة هو اكتشافه للمرة الأولى في مدارس مدينة مكة المكرمة لينتشر في مناطق أخرى من المملكة.
السؤال؛ من يتحمل وزر قضية «الجرب» التي أفسدت الصورة الجميلة للسعودية الجديدة التي كنا ننتظر نتائج كل المساعي الحثيثة التي يبذلها ولي العهد لتحقيقها واقتطاف ثمارها بفارغ الصبر؟ الصورة بدت كارثية ليس على المستوى الصحي، بل على المستوى الإداري المتكلس في كثير من وزاراتنا، كان «الجرب» كاشفاً ومعرياً حقيقياً للجرب المماثل الذي يأكل في جسد أنظمتنا الإدارية البالية مع شديد الأسف، هذه الأنظمة التي لا تزال تكرس آلية بيروقراطية متعفنة ومتآكلة، لا تناسب البتة مع تحولنا الجديد، الذي ننشد منه تقديمنا للعالم بشكل آخر، فأسوأ ما يوصف به الإنسان أنه «أجرب»، والتعاسة الأشد أن يتفشى في حقولنا التعليمية. لم تعد المشكلة الآن تكمن في المناهج، أو علاقة المعلم بالطالب، ولا بمستوى تحصيل الطالب ومخرجاته التعليمية، بل في مستوى النظافة التي كنا قديما نعلقها في لوحاتنا الحائطية «النظافة من الإيمان».
ولي العهد أكد أن الخطة المستقبلية تعد بأن يحتل التعليم في السعودية مراتب متقدمة من بين دول العالم، وهذا حلم نتمناه وسيعمل على تحقيقه، لنفاجأ بما يشبه «الصدمة» أن ثمة خللا «ما» في حقولنا التعليمية، وإذا لم يعالج سريعا فإن أحلامنا السعيدة ستذهب أدراج الرياح، لتبدو الفجوة بين من يريد الإصلاح ويسعى لأجل ذلك جاهدا وتحط ركابه في ملء بقاع العالم لأجل حلم المستقبل السعيد، وبين من يسعى جاهدا لتضييق الخناق على العملية التعليمية برمتها ويعجز عن إيجاد حلول ناجعة لها حتى باتت مدارسنا، موئلاً لكل الأمراض المتفاعلة سريعاً، إلى أن جاء «الجرب» ليكشف واقع التعليم الحقيقي، لأن الطالب لم يعد ينقل العلم وحده من المدرسة، بل المرض أيضا في مدارس لا توفّر أدنى الاحتياجات الطبية كجهاز قياس الحرارة مثلا، ناهيك عن تكدس النفايات وقذارة دورات المياه.
مع رؤية ولي العهد الرائعة، لن نتصور مدارس على هذا النمط، بل مدارس بمبان مؤثثة بالكامل بما يليق بها ومجهزة بالأدوات والأجهزة الطبية اللازمة، وزير التعليم وهو واحد من كل الوزراء الذين يديرون مؤسسات تكتظ بالأنظمة البالية التي تقدم ساعات الحضور على الإنجاز والابداع، وتسمح من خلالها لصغار موظفيها القفز على حبال هذه الأنظمة للوصول إلى المراتب العليا منها بطرق بهلوانية، فمن يعرف دهاليز هذه الأنظمة وارتباطاتها «الشللية»، يستطيع في سن مبكرة أن يقفز إلى المراتب العليا، وينال غلته كاملة من انتدابات إلى دورات خارجية إلى خارج دوام طيلة السنة، بينما الآخرون الذين تعلموا جيدا ويحملون مؤهلات، فإن الأنظمة التي تفسح المجال لأنواع المتسلقين كـ«الجرب» على أكتاف الأنظمة أفقد الموظف الجاد انتماءه الحقيقي للمؤسسة التي يعمل فيها، وهي أحد الروافد المهمة في نهضة الوطن الشاملة. قد لا يظهر هذا السقوط الإداري الذريع للأنظمة البيروقراطية البالية في بعض المؤسسات المنغلقة على نفسها، ولكنه يظهر جليا في المؤسسات الخدمية ذات العلاقة المباشرة بالناس وحاجاتهم، ففي ظل هذه الأنظمة لن تجد موظفاً مظلوما سيؤدي عمله على الوجه الأكمل وهو يرى زملاءه يكرّمون بما لا يستحقون وهو «مكانك سر»، فقط لأنه لا يجيد النفاق، كما لن تجد موظفاً مخلصا يحاسب فقط على ساعات العمل من دون الإنجاز. تجربة الإدارة التاريخية الطويلة أوجدت طبقة موظفين متبطلين أعاقتهم هذه الأنظمة البالية عن خدمة وطنهم كما ينبغي، انظروا إلى كثير من مؤسساتنا، لم تستطع حتى اليوم تقديم نفسها بشكل فاعل من داخل رؤية التحول 2030.
في الفترات الماضية اعتمدت خطط التنمية على بناء الصروح ولم نواكبها ببناء عقول إدارية جديدة تفكر خارج صندوق الأنظمة البالية، ولكي تكتمل الصورة التي يرسمها ولي العهد لوطن جديد يجب نسف البنية الإدارية التحتية القديمة البالية برمتها، وإعادة بنائها من جديد، بحيث تعتمد أولاً على قيمة الإنجاز التي تستشعر قيمة الوطن والإنسان، باستثمار البناء التقني المعلوماتي الجديد وقواعد المعلومات الحديثة. إن لم نفعل فسيجتاحنا «الجرب» من كل «حدب» و«صوب».