فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
حاضر كل وطن هو في حقيقته مجموعة من الصور والمشاهد، وربما الحوادث، وحين تتأزم الأمور، تبدو التفاعلات بين اللاعبين على مسرح القوة، أسرع من قدرة العقل على المتابعة، وقتها فقط تخرج القوى الحقيقية المسيطرة من الظلام إلى النور، وهذا بالضبط الواقع المعاش للمملكة، منذ قرار إعلان الأمير محمد بن سلمان، وليًا للعهد.
الأمير الصغير كنّس، في سبيل صعوده، الكثير من الثوابت الحاكمة للمملكة، والبيت الحاكم ذاته، وهزّ بعنف كرسي العرش، وكل ما يفعله تأكيدًا لسيطرته وإمساكه بمقاليد الأمور، يسبب من الأزمات ما يستعصي على الحل.
قرارات الأمير، التي يشبهها البعض بتأسيس جديد للمملكة، هي في حقيقتها شراء لرضا الحليف الأهم، الولايات المتحدة الأميركية، وسعيًا وراء إسباغ هالات العظمة من الإعلام الغربي، وهي سياسة تصلح للخارج، لكنها تتصادم مع حقائق المجتمع السعودي، وتناقض وجوده القائم على حساسيات قبلية وقواعد نفوذ راسخة، وكلها صامتة حتى الآن.
الولايات المتحدة هي أهم أصدقاء المملكة بلا شك أو تفكير، وقوة من الممكن أن تضمن الوصول إلى قمة هرم السلطة، لكنها بالتأكيد لا تضمن العرش، في بلد تحكمه المصالح، المعززة بالنفوذ القبلي والعائلي، المبنية على توافق بين أركان الحكم، يبدو مفككًا في الوقت الحالي، بفعل ضغوط الملك لتمرير قرار ولاية العهد.
الصعود الصاروخي لولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان، أربك دوائر القوة الحقيقية في المملكة، وهي تجمع مصالح المال والنفوذ والعصبية، والتي ترسم وجود الدولة السعودية، التي نراها اليوم، وبالتالي عطلت رد الفعل، عن القادرين عليه، مؤقتًا، ريثما تنفتح فرصة جديدة لإثبات الوجود.
الطريق الخطر للصدام مع العائلة كلها قادم، في يوم قريب، يخسر الأمير فيه ورقة الملك الأب، الذي يوفر الغطاء ويضمن الآمان، ويسبغ الحماية على خطوات ولي العهد، حتى تلك التي تخاصم المصالح العليا للمملكة، مثل قرارات الإصلاح الاقتصادي، الصادمة لمصالح الأغلبية من المواطنين، والمستفزة للاستقرار السطحي في السعودية.
الإصلاح الاقتصادي، الذي يقوده ولي العهد بحماس منقطع النظير، يهدد المملكة بحالة من السيولة، جراء استدعاء سخط مواطني البلد ضد حكامها، ربما لأول مرة نعاين غضبًا متزايدًا بين المواطنين، جراء عدم وضوح الرؤية، وسيطرة المجهول على المستقبل المعيشي.
الدولة العربية الأغنى تجتاحها حاليًا حملات تبرع، ليس لفلسطين أو الصومال أو بورما، لكن لفقراء المملكة ذاتها، في مؤشر خطر على استمرار النهج الاقتصادي المعتمد من هيئات مالية دولية، لم تنجح قط إلا في إغراق الدول التي تستعين بها، وفي تجربة اليونان الغارقة في الديون عبرة.
مفتاح الحل الاقتصادي يكمن في قطع رأس الفساد، وتحقيق قدر من العدالة، وتوفير مناخ إيجابي للأعمال، وليس في خصخصة قطاعات حيوية بالمملكة، لأنه حل تمت تجربته وفشل سابقًا، وإيرادات المملكة النفطية كفيلة وحدها، إذا ما تمت إدارتها وتخطيطها جيدًا، بمجاوزة الأزمة الحالية، وتغطية العجز، الذي أصبح مزمنًا في الموازنة العامة، بدون اللجوء إلى لعبة المغامرة بالمستقبل.
الكارثة أن القرارات الاقتصادية تنزع عن المملكة مفاتيح القوة، وتهديها ببساطة إلى شركات متعددة الجنسيات، وهي لا تهتم سوى بزيادة أرباحها، وبالتالي تصنع سحبًا كثيفة من الشك على إدارة الدولة ككل، وتزيد من الأعباء المعيشية على الطبقة الوسطى خصوصًا، وهي مفتاح استقرار أي مجتمع بشري.
الغلاء والإفقار مفتاح ملكي لإثارة المخاوف، أو إضفاء شرعية أكيدة على أي تحرك مناهض لحكم الأمير الشاب، الآن أو مستقبلًا، بعد أن تسببت حرب اليمن في نزيف هائل للأموال منذ 4 سنوات، ثم نزيف آخر للكرامة الوطنية، بعد تكرار ردود الحوثيين بالقصف على القصور الملكية والمطارات، وهو رد مرشح للتصاعد أكثر بعد اغتيال الزعيم الحوثي صالح الصماد.
الحادثة الفريدة التي جرت منذ أيام، بإدعاء الأمن إسقاط طائرة "درون"، في بيان طغى عليه التخبط أكثر من الكذب، يمثل خروجًا فاضحًا لغضب عنيف عن السيطرة، لبعض الدوائر القوية، الممسكة بمفاتيح مهمة في الدولة.
القصور تشهد الآن غليانًا غير مسبوق، بعد مرور قرارات وخطوات كثيرة بلا أي رد فعل، وعلى رأسها اعتقال الأمراء وغيرها، بما يفتح الباب لتكرار مثل هذه الحادثة، لتكون شرارة البدء لخروج الصراع إلى النور.