فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
معلقة الشاعر عمرو بن كلثوم واحدة من عيون الشعر العربي، عيونه الذابلات بغرور الأنا والغلو في رفع شأن الذات، إلى الحد الذي تبلغ معه حدًا غير مستند إلى أرضية سليمة، شأنها شأن القيادة الفردية، لشخص يظن أن كل معاني الإلهام تجسدت في عقله، واستقرت في نفسه، فسرعان ما تهوي بصاحبها إلى قرار سحيق من الظلمة والوحدة، وربما الجنون، بعد أن تلتف حبال الذاتية والغرور حول عنقه.
الشاعر الذي ينتمي إلى القلب المجدب للجزيرة العربية، كتب أبياتًا لم تخرج من الإسكندر الأكبر ملك القارات الثلاث، ولا من يوليوس قيصر، الفاتح الروماني الأعظم، بل خرجت من ابن قبيلة تعتاش على السلب أو البحث عن الكلأ، ومثلها لا يترك على صفحات الحياة، وليس التاريخ فقط، إلا اللغو المزخرف بكل ما هو غارق في خيال مريض، لا يعرف حدودًا كما بيئته، التي هي صحراء مد البصر، وسماء لا تحيط باتساعها عين.
ابن كلثوم نموذج لما عليه عقليات كُثر، ممن تولوا مقاليد السيطرة في العالم العربي، سيطرة جاءت في وقت ارتفعت فيه آمال الاستقلال وامتلاك الثروات الوطنية إلى عنان السماء، بغير جهد في البناء يوازي تطلعات النتائج، وبالتالي شهدت المنطقة، المفتتة بفعل اتفاقية "سايكس-بيكو" الاستعمارية، تردِ إلى غير قعر، مع بداية هبوب رياح التغيير عليها، وهي ريياح لا تبتعد عن السعودية كثيرًا.
النسق الاقتصادي للدولة السعودية، منذ بدء تدفق عوائد البترول إلى خزائنها، شهد دستورًا غير مكتوب، يقضي بتوفير الحياة الآمنة والخدمات والسلع المدعومة حكوميًا لأغلب السكان، مقابل ترك السياسة لجزء من العائلة المالكة، وهو ما يغامر الأمير الصغير بمحاولة تغييرهن غير ناظر إلى عواقب كسر قاعدة السلطة، في أغنى بلد عربي.
ولي العهد السعودي يتصرف كما المقامر المنتشي بكؤوس الخمر، فأذهبت الخمر ما تبقى من عقل لم يبهره الذهب اللماع، فيستثمر في نيل الرضا الأميركي، عبر عقد أضخم صفقات السلاح –وصلت قيمة صفقات زيارة الرئيس الأميركي "ترمب" وحدها إلى 400 مليار دولار، في الوقت الذي تعاني فيه الخزينة السعودية عجزًا عنيفًا، جراء تراجع 3 سنوات في أسعار النفط، ونتيجة لتكاليف حرب على اليمن، تدخل عامها الرابع، بلا نهاية تلوح في الأفق.
آخر ما تفتق عنه ذهن الأمير، هو إعلان برنامج ضخم للخصخصة، لتخليص البلد من الأرث القديم للعائلة، وفتح مجالات أكبر لدخول القطاع الخاص، وهو في ظاهره قرار جيد للإمساك بتلابيب السلطة أكثر، إذ أنه يضرب القاعدة التي يستند عليها أقاربه الطامعين في السلطة، أي أنه يجردهم من قوتهم في الداخل السعودي، عن طريق خلق قوة جديدة في الواقع الاقتصادي، هي الشركات متعددة الجنسيات.
الخطط المعلنة، حتى اللحظة، من قِبل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي، عن برنامج التخصيص، أحد برامج تحقيق "رؤية 2030"، استهداف بيع أصول حكومية بـ9.3 إلى 10.7 مليار دولار بحلول 2020، وصولًأ للمساهمة في الناتج المحلي بنحو 3.5 إلى 3.7 مليار دولار، وتوفير 12 ألف وظيفة للعمالة الوطنية، ورفع كفاءة أداء الاقتصاد الوطني وتحسين الخدمات.
أي أن الخطط في حقيقتها تستهدف رفع يد الدولة تمامًا عن القطاعات الاقتصادية، وتركها بالكامل للقطاع الخاص، ويتحول دور الدولة في نهاية فترة التطبيق "2030" إلى مجرد منظم لعمليات التداول ودور إشرافي على الأسواق، وستفرط في الآليات التي تسمح لها بالتدخل، لجذب الاستثمارات الأجنبية، لرفع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي من 40% إلى 65% بحلول عام 2030، وزيادة الاستثمارات غير الحكومية.
في محاولة الأمير لكسر شوكة منافسيه على السلطة، يراهن على كسر يد السلطة التي يسعة إليها، وترك البلد في عراء غياب الأطر الحاكمة للمجتمع، والتي شكلت مع الدعم الخارجي عرش آل سعود، وهو ما يجعل الحاضر قبل المستقبل مهدد، بفعل لافتئات على الحقوق المشروعة لمواطنين، تزايدت أعدادهم كثيرًا، منذ الثلاثينيات، وقت ظهور المملكة بشكلها الحالي.
في وسط المناخ الخانق، حيث لا حل يرتجى ولا أمل يشع، يأتي الفرج، ويلف الظالم حبل السلطة والسيطرة حول رأسه، ورؤوس أتباعه، المواطن قد يصبر لسنوات على القهر، وعلى الظلم والفُجر، لكن روحه ترفض إضافة "العناد" بالذات إلى تصرفات القوة المسيطرة على حياته.