ديفيد بولوك- معهد واشنطن-
استطاعت المملكة العربية السعودية أن تستحوذ على الاهتمام الدولي وأثارت نقاشات محتدمة حول شؤونها الداخلية إثر حربها الضروس التي شنتها بالوكالة ضد إيران وحلفاء طهران في اليمن، إلى جانب قرارها الذي طال انتظاره بمنح المرأة حق القيادة ونزاعها الغريب مع كندا مؤخرًا حول اعتقال المعارضين السعوديين. ولكن على الرغم من الضوء المسلط عليها، إلا أن هناك الكثير في المملكة مما لا نسمع عنه في أغلب الأحيان. ففي الشهر الماضي، لبيتُ دعوة للمشاركة في مؤتمر حول مستقبل سوريا استضافه معهد بحوث جديد وغير رسمي في الرياض. وأثناء زيارتي، استطعت أن أحصل على لمحة من المشهد الاجتماعي السعودي، ووجدت أن المجتمع السعودي أكثر تنوعًا مما يبدو في الخارج وأقل تحفظًا من حيث الثقافة مما كان من قبل.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا التحول اجتماعي أكثر منه سياسي. وبعبارة أخرى، بينما تتيح المملكة، بل وتشجع، التوسع في منح بعض الحريات الشخصية، تظل الحرية السياسية منعدمة. فأثناء زيارتي الأولى للمملكة منذ 25 سنة، كانت الحكومة السعودية (صدق أو لا تصدق) تتبنى شعار "التقدم بدون التغيير"، أما الآن فالشعار الأنسب هو "التحرر بدون الديمقراطية." وفي بعض المقتطفات من زيارتي أدناه أوضح طبيعة هذا التحرر في بعض جوانب الحياة المختارة، والذي لا يزال مساره الكلي غير واضح.
تقبل أكبر للتنوع الاجتماعي
سعت القيادة السعودية لسنوات عديدة إلى تصوير المملكة على أنها صرح ديني وأيديولوجي، ولكن المحادثات التي أجريتها تشير إلى أن الوضع لم يعد كذلك. "لسنا كلنا وهابيين،" قال مازحًا مضيفي الباحث الشاب في معهد البحوث الجديد والمتخصص في الأبحاث والحوار الاجتماعي السياسي. وكنا نتناقش حول مبادرة لدمج الشيعة السعوديين، الذين يقيم أغلبهم في المنطقة الشرقية للبلاد، في المجتمع السعودي العام.
يتمتع السعوديون من مختلف المناطق الآن بقدر أكبر من الحرية في الاختلاف من حيث المعتقدات الدينية وأيضًا الآراء حول القضايا الأخرى، بما في ذلك الجغرافيا السياسية. فعلى سبيل المثال، في المناطق الغربية والجنوبية للبلاد، حيث يتعامل السكان مع اليمنيين بشكل متكرر، قيل لي إن التعاطف مع اليمن والقلق بشأن الضحايا المدنيين هناك أكبر منه في المناطق الأخرى في المملكة. كما رأيت بنفسي أن السعوديين اليوم يتناقشون بحرية في مميزات وعيوب التعاون الوثيق مع إسرائيل ضد إيران (وسوف أناقش هذه النقطة باستفاضة في مقال لاحق).
كما يمتد التنوع غير المتوقع للمجتمع السعودي إلى أمور أكثر دنيوية. ففي يوم تخطت فيه الحرارة 46 درجة مئوية مع جفاف شديد في الرياض، أطلعني أحد أصدقائي السعوديين الجدد على مقطع فيديو مباشر على هاتفه لمدينة أبها في الجنوب. وقد تعجبت لرؤية عاصفة ممطرة باردة في سماء غائمة تعلو الجبال الخضراء هناك، بينما نحن نتصبب عرقًا في العواصف الرملية وسط الصحراء السعودية. وفي مرة أخرى، قال لي باحث سعودي متوسط العمر بمزيج من التعجب والاشمئزاز والتقبل على مضض: "ابنتي تربي كلبًا!"
الإرخاء الديني
يتماشى الاعتراف بالتنوع داخل المجتمع السعودي مع درجة معينة من التحرر الديني، فالسلطات السعودية والحياة العامة أقل تطرفًا مما كانت عليه منذ بضع سنوات. ويتجاوز ذلك العملية البطيئة للسماح للمرأة بالقيادة – وهو أمر لا يزال نادرًا حسب ما اختبرته أنا أو معارفي السعوديون – أو افتتاح بعض دور العرض في الرياض.
فمنذ سنوات قليلة فقط، كان في كل اجتماع أحضره أو مقابلة تلفزيونية أشارك فيها يبدأ الضيوف السعوديون حديثهم بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم،" بينما في زيارتي الحالية قام بذلك متحدث واحد فقط. وقد أدركت أن التراجع في الالتزام الديني الصارم أصبح أكثر وضوحًا عندما كنت أسير في شوارع الرياض ولاحظت بعض التغييرات الطفيفة في سلوك الناس أثناء أوقات الصلاة، فالمحلات والمطاعم ظلت مفتوحة، ولم يتوقف المارة عن الحديث. وكان ذلك السلوك بعيدًا كل البعد عما كان عليه منذ بضع سنوات، عندما كانت البلاد تتوقف بشكل تام خمس مرات يوميًا.
ولكن أكثر ما صدمني من أدلة على تآكل التقوى السعودية المتطرفة كان رسم غرافيتي رأيته في قرية العيينة، وهي قرية صغيرة على بعد ساعة من الرياض ومعروفة بأنها مسقط رأس مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب. فداخل أنقاض موطن أسلافه، كُتب بخط أسود عريض: "أنا الذي فقد قلبه على صدرك في آخر مرة تواشجنا هنا."
وقد جعلني ذلك أسأل عن إمكانية حدوث رد فعل متطرف. ولكن زملائي السعوديون الشباب أجابوا بأنه لا داعي للقلق، فالمتطرفين موجودين، ولكنهم مشتتين ومنبوذين وخائفين الآن. وقد تم كبح جماح الشرطة الدينية واستقطاب المؤسسة الدينية بشكل كبير وإقصاء المعارضين المتشددين ومنعهم من وسائل التواصل الاجتماعي واعتقال بعضهم. وأضافوا أن حتى معقل ردود الأفعال الدينية في القصيم تم تحييده. لم أستطع التحقق من كلامهم، ولكنني لم أجد أي أدلة ضده.
وما استطعت أن أشعر به بشكل مباشر هو أن مع ابتعاد المجتمع السعودي عن "التطرف الإسلامي،" بدأت المواقف والأولويات والفرص والعادات الجديدة في الظهور. فعلى سبيل المثال، بدأ المزيد من السعوديين على مدى العقد الأخير في الاهتمام بتاريخ البلاد القومي وليس الديني فحسب. واحتفاءً بتاريخ البلاد، قامت السلطات بترميم الدرعية، العاصمة السعودية القديمة، وحصن المصمك التاريخي في وسط الرياض، والذي كان قد تحول إلى أنقاض.
تليين الصور النمطية الجنسية إلى حد ما
وبينما تعيد السلطات اكتشاف تاريخ المملكة، تتقدم المرأة السعودية إلى الأمام. فقد كان العمل في الفنادق أو أروقة الأعمال ومكاتب الاستقبال يقتصر على الرجال غير السعوديين، ولكن السعوديات يتولين هذه الوظائف اليوم، وخاصة اللاتي يتحدثن الإنجليزية بطلاقة ويتعاملن بسهولة مع الجنس الآخر. وقد فوجئت حينما أنهت إحداهن حديثها معي بضحكة وغمزة واضحة من وراء النقاب بتعليق: "وبالمناسبة، تعجبني ربطة العنق التي ترتديها!"
لا تزال أغلب السيدات اللاتي أراهن في العلن يرتدين النقاب الكامل، ولكن إحدى السيدات في مجموعتنا الصغيرة سورية تترك شعرها مكشوفًا بحرية من دون حتى أي غطاء للرأس، سواء كان ذلك في الاجتماعات الرسمية أو أروقة الفنادق أو حتى في الشوارع، ومع ذلك لا تتلقى أي تعليقات أو نظرات عدائية من أي أحد. وهذا تغيّر حديث ما كان ليحدث من قبل على الأرجح.
وفي بعض المجموعات المعينة، نجد نزعة متنامية لتقبل مجتمع المثليين. فأثناء المؤتمر، حكى لي أحد أعضاء مجلس الشورى أنه قال لإبنه ذي العشر سنوات أن أحد الشخصيات في لعبة الفيديو التي يلعبها تبدو مثلية، فرد الطفل متسائلًا: "كيف يمكنك أن تكره المثليين لهذه الدرجة؟"
"الأوتوقراطية الليبرالية"
وفقًا للعديد من الذين تحدثت إليهم، هذه هي أنواع التغييرات التي يريد السعوديون رؤيتها. فاهتمام الشباب السعودي ينصب في أغلبه على الإصلاحات في أسلوب حياتهم، وهم على استعداد للتنازل عن الحرية السياسية من أجل هذه الغاية. وقد أكد أحد معارفي السعوديين الجدد على أن "كل هذه التغييرات لم تكن لتحدث لولا ولي العهد الجديد، ولذلك ندعمه." واتفق معه حوالي عشرة من زملائه السعوديين بمختلف أعمارهم. ومن جانبه، فإن محمد بن سلمان مستعد للإصلاح طالما تمتع بالسيطرة الكاملة عليه. فقد يقابل النقد العلني أو حتى التعبير عن الآراء المؤيدة أو المعارضة للإصلاح بالعقاب الشديد الذي يتراوح بين فقدان العمل أو النفي أو الاعتقال. وبينما تتمتع السعوديات الآن بحق القيادة، فإن بعضهن ممن دافعن عن هذا الحق تعرضن للاعتقال.
وقد شرح هذه النقطة أحد الإعلاميين السعوديين الكبار الذين تحدثت إليهم قائلًا إنه تعرض شخصيًا للاستجواب عدة مرات من قبل الأمن الداخلي أو الأجهزة الأخرى بسبب تغطيته وتعليقاته الحرة وقال "يمكنني أن أنتقد الفساد في وزارة الصحة، ولكن وزارة الدفاع مسألة مختلفة،" وأضاف: "وعلى أية حال، فإن أغلب السعوديين يرون أن الفساد هناك أقل كثيرًا الآن."
وعلى الرغم من أن الحملة الرسمية ضد الفساد قد تبدو تعسفية، إلا أنها تحظى بالدعم الشعبي إلى حد كبير. ومن بين التعليقات المعتادة التي أسمعها أن "الأثرياء الذين احتجزوا في فندق الريتز كانوا يستحقون ذلك، وكل ما اضطروا للتنازل عنه هو الثروة غير المشروعة التي اكتسبوها على مدى 40 عامًا." وحرصًا على الاستقرار الاجتماعي حتى في خضم التغييرات المهمة، تراقب الحكومة السعودية مثل هذه الآراء، كما سأوضح في المقال القادم حول هذه الزيارة.