ملفات » رؤية المملكة السعودية 2030

هل يمكن استنساخ خوان كارلوس في السعودية؟

في 2019/02/12

فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-

يتفق المجتمع السعودي، بكل أطيافه، مع نظام الحكم القائم، ربما في واحد من النوادر الوطنية، أن المملكة بحاجة لعملية تحول شامل ولازم، من هذه النقطة تتصاعد مطالب حراك مجتمعي، على مواقع التواصل الاجتماعي غالبًا، وفي شوارع المنطقة الشرقية أحيانًا، وأعلن كذلك الملك عن خطط التحول 2020 ورؤية المملكة 2030، في اعتراف ضمني بأن ما كان يصلح للزمن الماضي لن يمكن المملكة من العبور للمستقبل.

ورغم كون الاعتراف الملكي بالأزمة جيد، إلا أنه يبقى متأخرًا وناقصًا، تأخر وقته حتى باتت الفرصة على وشك الإفلات، وانحصر في الشأن الاقتصادي، وهو مهم قطعًا، لكن الأهم أن المملكة بشكلها وإدارتها الحالية تنتمي إلى الماضي، أكثر من أن تناسب الحاضر أو المستقبل، ففقدت شروط الاستمرار، ولا تعتمد سوى على عوائد نفطية هي الأضخم، وتعطل القبضة الأمنية الساحقة أي حراك شعبي، مؤقتًا.

مدخل عمليات الإصلاح، الذي لجأ إليه النظام الحاكم، كان الاقتصاد، ووضع لافتة التحول إلى عصر ما بعد النفط، لتمرير إجراءات اقتصادية عدة، لكن الوضع الاقتصادي في المملكة ليس بالسوء الذي يستدعي المجابهة الحتمية، فالمملكة أكبر اقتصاد عربي وأسرع الأسواق نموًا في الشرق الأوسط، وهي صاحبة أضخم احتياطي بترولي، يوفر للقائمين على السلطة خيارات واسعة، إذا ما تمتعت الحكومة بالكفاءة والمسؤولية فقط.

والتحدي القائم المسبب لعجز مستمر في الموازنة، يمكن رده ببساطة إلى مخصصات الأمراء، وإلى صفقات السلاح الضخمة، ثم إلى المغامرات العسكرية المتتالية، كما في سوريا واليمن، والتي حصدت المملكة بسببها الدم والكراهية، وسط محيطها العربي والإسلامي، وخصص ولي العهد ثلث الإنفاق العام بالموازنة على فاتورة الأمن والقوات المسلحة، تلبية لفاتورة حرب اليمن، التي تستقطع المزيد من المصروفات غير المعلنة غالبًا، بعد استحواذه على 83 مليار دولار، من إجمالي نفقات موازنة 2018، والمقدرة بنحو 261 مليار دولار.

لكن المملكة لا تحتاج لطرح مشروعات تنمية عالمية، واجهت معوقات ومشاكل أبعد ما تكون عن الواقع السعودي، لا الصين ولا البرازيل أو الهند كانت تتمتع بفوائض هائلة من النفط، وكلها بدأت تجاربها الاقتصادية بتغيير مجتمعاتها، والتجذير للصناعة والتصدير، لكن الأزمة السعودية هي سياسية في المقام الأول، تتعلق بشكل الحكم، وقدرته على التعبير عن مصالح الأغلبية الواضحة من مواطنيه، وبالتالي العمل في ظل مظلة من الثقة الشعبية، تكفل لها ترجمة التحديات لأهداف موضوعة، ووضع خطط تنفيذها، وضمان مشاركة المجتمع كله في تحمل تبعاتها والمشاركة فيها.

يبرز المثال الإسباني هنا كطريق واضح مضيء، مبهر في دلالاته ونتائجه، خوان كارلوس ملك إسبانيا السابق، الذي اختاره شعبه كأعظم شخصية إسبانية عبر التاريخ في استفتاء عام 2007، قاد عملية تحول سلمي هائل نحو الديموقراطية، في أقدم نظام عسكري بقارة أوروبا، نظام الديكتاتور فرانكو الرهيب، وتمكن خلال سنوات فقط من تحويل بلده إلى مثال يحتذي، سواء على مستوى الإصلاحات السياسية أو مسيرتها الاقتصادية بعد ذلك.

ورث كارلوس في تشرين الثاني/نوفمبر 1975 دولة شمولية، تقمع كل الحريات، لكن ملفها الاقتصاي كان ناجحًا، وكفل وجود طبقة وسطى قوية ومتسعة، ورغم القيود التي وصلت لخنق اليسار الإسباني طوال عقود حكم فرانكو –من 1936 إلى 1975- والقبضة العسكرية الفولاذية، التي ميزت إسبانيا.

بدأ خوان كارلوس المسيرة فور توليه الحكم، وأعلن عن نفسه "ضامنًا للانتقال الديموقراطي"، مع احتفاظه بمنصب القائد الأعلى للجيش الإسباني، والذي ضمن له السيطرة على القوى المناوئة للتحول، وساندته الطبقة الوسطى في سعيه لانتقال هادئ، يوفر استمرارية مؤسسات الدولة، وفي الوقت ذاته يستوعب أطياف الشعب الإسباني كافة، بدون إقصاء أو تهميش.

وفي ظل عام واحد، وبفضل أفكار الفقيه الدستوري توركواتو فيرنانديث ميراندا، وضع القانون الأساسي، الذي يحل النظام السياسي القائم والمسيطر منذ ثلاثينيات القرن، وينشئ واقع جديد، تحت ظل قوانين "فوق دستورية"، أو مواد أساسية، تستجيب لرغبات النخب الإسبانية في انتقال يوفر الحد الأدنى اللازم للاستمرارية السياسية، ومنع أي انهيار مفاجئ، سواء في الأسواق أو العملية السياسية.

وبعدها في عام 1977، اعتمدت إسبانيا على انتخابات شفافة، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية، ردًا على موجة عنف وتفجيرات هائلة، لم تثن النظام والمجتمع عن الخيار الديموقراطي، لتعتمد إشراك الجميع في العالم الجديد، الذي سعى خوان كارلوس منذ البداية لتشكيله، متخليًا عن سلطاته غير المقيدة أو المحدودة، وكانت النتيجة إقرار الدستور الإسباني في 1978، لتعبر البلاد في ظرف 3 سنوات من ديكتاتورية فاشية إلى دولة حديثة.

ورغم محاولات النكوص عن الإصلاحات، والتي تجلت كأخطر ما يكون في انقلاب عسكري شهير في 23 فبراير 1981، نفذه الكولونيل أنطونيو تيخيرو، واحتجاز أعضاء مجلس النواب على الهواء مباشرة، خلال اختيار الحكومة الجديدة، إلا أن ثبات الملك، وقدرته على القيادة والسيطرة على الجيش منعت عودة إسبانيا إلى الديكتاتورية العسكرية، وأثبتت أن التحولات الكبرى ممكنة، ودور شخص واحد في التاريخ كبير وعميق، رغم أية نظريات أخرى تحاول إلغاء أو التقليل من هذا الدور الفردي.

للتاريخ باب واحد كبير، يسمح بدخول عظماء أو قادة كبار، ساهموا في تغيير حياة مواطنيهم ومجتمعاتهم، تاركًا الأبواب الخلفية الصدئة للمجرمين والطغاة، فهل نرى من بين أفراد الأسرة الحاكمة من يقرأ دروس التاريخ، ويعي ضروراتها، ويوقن أن المملكة لن تسير إلى أي مستقبل في ظل السياسات والأوضاع الحالية.