فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
تقدم قراءة تجارب التنمية العالمية الإجابة عن تحدٍ هائل، يقف عقبة في طريق تطور المجتمعات العربية، التي لا تزال تتخبط في طريقها نحو عصر جديد، بإمكانات هائلة توفرها عملية تدفق النفط وتراكم الثروات السيادية، لكن بلا عقل يضبط ويوجه ويرسم مسارًا مختلفًا، تتضافر فيه إرادة الشعوب مع رؤية الحاكم، لتحقيق شرط أولي وهو "المشاركة"، وهو شرط غائب عن أغلب الدول العربية، وأدى إلى تحويل التجارب –حتى المبشّر منها- إلى تكلس ومن ثم فشل ذريع، مع ارتباطه بفرد حاكم.
المملكة العربية السعودية، صاحبة أكبر اقتصاد عربي، وأضخم إنتاج نفطي، تحاول منذ سنوات قليلة فقط وضع العجلات على أول طريق التنمية الشاملة، مستندة إلى رؤية جديدة، كما هو معلن ومنشور، وإرادة يقال إنها حاضرة للتنمية وتغيير المنظومة القيمية للمجتمع كله، ليتبعها نسف الهيكل الاقتصادي القديم، القائم على النفط وموارده، نحو اقتصاد أكثر تنوعًا، ومجتمع أعمق حداثة وتطورًا.
وحين تطرح قضية التنمية في العالم العربي نفسها، كقضية وجود، لا بد من الإشارة إلى أحد أقرب التجارب إلينا، الهند، فسيفساء عرقية ودينية ولغوية، ومساحة هائلة من الأرض يكتظ بداخلها ما يقرب من مليار إنسان، وحتى الخمسينات من القرن الفائت، كانت واحدة من أفقر دول العالم، وأكثرها تخلفًا، وتشبه مجتمعًا من القبائل المتنافرة، أكثر منها دولة تنتمي للعصر الحديث.
وهناك الكثير من الظروف تجعل التجارب الإنسانية متشابهة، وليست متماثلة، والأخذ بها يمثل زادًا في رحلة التطور البشري، مع الاستخلاص الأمين للعبر والدروس، صحيح جدًا أن ظروف التاريخ لن تكرر نفسها على مستوى المجتمعات، لكن هناك قوانين للحياة، تعطي بعدل لمن يعمل وفق مقتضياتها.
في ربع قرن بالضبط، تغير وجه الهند للأبد، وصارت إحدى القوى العالمية البازغة، والآن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تصارع لتحتل مكانها بين أقوى اقتصاديات العالم، وأكثرها تطورًا وحداثة، وصارت صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم من زاوية الحجم، 7910 مليار دولار قيمة الناتج المحلي وفقا لتعادل القوى الشرائية، وخرجت من تصنيف الدول الفقيرة نهائيًا، وفقًا للناتج المحلي الإجمالي إلى عدد السكان، وهي أحد أعضاء تجمع "بريكس" لأسرع الاقتصادات نموًا، وتدخل ضمن توقعات مؤسسات التصنيف الدولية، كصاحبة ثاني اقتصاد في العالم، خلال فترة لن تتجاوز 2050، خلف التنين الصيني.
والاقتصاد الهندي الذي قام طوال فترات الاحتلال البريطاني بتوريد المواد الخام الرخيصة إلى مصانع بريطانيا، تغير هو الآخر للأبد، فالاعتماد والتركيز على الصادرات فائقة التطور، وهناك اقتصاد قائم على المعرفة، وبنية تكنولوجية هائلة، يعز امتلاكها على دول الجنوب –بخلاف الصين- واعتماد على قطاعات متعددة، مثل السياحة والزراعة، وكلا القطاعين يشهدان طفرات متوالية، ويحظيان باهتمام حكومي متزايد، وتزيد الاستثمارات الأجنبية القادمة إليها عن 39 مليار دولار سنويا، في المتوسط، خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط.
والأهم في التجربة الهندية إنها دولة مصنعة، تصنع بنفسها ما تريد، صواريخ فضاء وأقمار اصطناعية، ضمنت لها التواجد في نادي كبار العالم، وصناعة طائرات متقدمة للغاية، وتكنولوجيا نووية، قامت واستمرت وتطورت بالاعتماد على كفاءات محلية، وارتبطت بصراعها العسكري مع باكستان، وكل الطفرة المتحققة كانت خلال فترة زمنية قصيرة جدًا سواء بالنسبة لعدد السكان، أو للتخلف السائد في فترة الاحتلال البريطاني.
استفادت الهند لأقصى مدى من موجة التصنيع التي هبت على العالم الثالث، لكن تجربتها اختلفت في قيامها بتوطين التكنولوجيا، بشكل لم تعرفه بقية الدول النامية، لخلق مرتكزات تكنولوجية محلية، وبدأت التحول إلى اقتصاد المعرفة، قبل ظهور المصطلح بعشرات السنوات، وعبر الطلب المحلي الهائل تمكنت من صنع مشروع نهضة مبهر، والعمالة الفنية المدربة كانت سبيل الهند للحفاظ على منجزات المشروع الحضاري الهائل، والتعليم المستمر أسس لمنظومة صناعية تتقدم باستمرار، ولا تتوقف عن التطور على الإطلاق، وأسهمت المدارس الموجودة بالمصانع، بجانب الجامعات والبحث العلمي المرتبط بالاقتصاد الوطني، في تحقيق طفرات هائلة، خاصة خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
والمجال لا يتسع لسرد نتائج التجربة الهندية الباهرة، سواء في طريقها إلى التقدم، أو نتائجها النهائية، لكن المفيد أكثر هو معرفة أن تلك الدولة تمكنت –بعد الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي- من إعادة هندسة المجتمع الهندي، وتحويل المكونات المتعددة، وربما المتنافرة أحيانًا، إلى تشكيل محكم، أو جديلة منسجمة، تمكنت بسرعة من الانتقال إلى عصر جديد، وامتلاك أدواته، وحسن التصرف بها، لتصبح ما هي عليه اليوم.
الديمقراطية أو المشاركة، سمها ما شئت، ضمنت للهند أن تصبح صاحبة ثالث أضخم اقتصاد في عالم اليوم، أكبر ديمقراطية في العالم، بعدد سكانها، وتجربتها مستمرة منذ الاستقلال، وأنجبت شخصيات أسطورية، مكنت لها من عبور مراحل صعبة وعقبات في سبيل التقدم والتنمية، شخصيات تاريخية، من عينة جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي، وقبلهما "غاندي" بتأثيره الإنساني الأوسع، ممن أفرزتهم تجربة الحكم الوطني.
لحظة الإلهام الأولى في التجربة الهندية هي ما تنقص المملكة اليوم، وربما الأمس أيضًا، فالتقدم أو التنمية مفردات اجتماعية من الطراز الأول، تستلزم خطة ورؤية، وتستتبعها نتائج هي ما يمكن إطلاق لفظ "إنجازات" عليها، وبقدر ما يستطيع –ويؤمن- أي نظام حكم أن يقدم لشعبه نظامًا اجتماعيا يحقق العدالة للأغلبية الواضحة، فإنه يكون قرب تحقيق المنشود من وراء السلطة، أي سلطة.
السلطة في المملكة –للأسف- لا تخوض صراعًا لتفتيت البنى الاجتماعية القائمة، وتأسيس شكل جديد للعمل الوطني، أكثرًا شمولية وجمعًا للناس، بغض النظر عن المذهب أو العائلة، لكن جلّ همها هو ترسيخ الحكم والقوة، وفرض الطاعة على كل أجزاء المملكة، وهو أمر يجعل الشك يتسرب إلى أي حديث عن المستقبل المنظور، فالفشل في إدارة الكتلة البشرية بالمملكة هو مفتاح الخروج من التاريخ، وليس أبدًا تحقيق رؤية مكتوبة على أوراق فاخرة وبلغة إنجليزية مذهبة.