(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
حانت لحظة التّغيير الكبير، أو هكذا أراد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لحظة التّحوّل من عصر البترول إلى عصر الصناعة، ومن مجتمع قام واستمرّ على الرّيع، إلى مجتمع شاب، يستطيع أن يحجز مكانًا في عالم الغد، ويسابق القوى الاقتصادية الصّاعدة إلى ضمان مساحته في مستقبل بدأ يلحّ بشروطه على الجميع.
بدفع من الطّفرة الهائلة في أسعار النّفط مؤخّرًا، عاد الحلم الكبير لمشروع البحر الأحمر والمعروف بمدينة "نيوم"، إلى شغل المساحة الأكبر من الاهتمام الحكومي في المملكة، مع الإعلان عن خطوات جديدة، وهائلة، في سبيل وضع أُسس وخُطط البناء للمنطقة الاقتصادية العملاقة، والتي تُعدّ رهان الأمير الأكبر على المستقبل وعلى التّغيير وعلى وضع المملكة كقوّة اقتصادية أولى في المنطقة الواعدة.
والأزمة كما هي، في اللّحظة الرّاهنة، لا تعكس فقط قضيّة تخصيص العائدات الضّخمة وغير المتوقّعة لأسعار النّفط، لكنّها تعكس أزمة الإدارة، على مستوى أوسع بكثير من مجرّد رتق موازنة العام الحالي أو المُقبل، وأبعد بكثير من هذه الشهور القليلة من القفزة السعريّة للنّفط، وتداعيّاتها ومضاعفاتها.
وبعيدًا عن الإعلان التّحفيزي الغريب، والذي جاء على لسان ولي العهد، وكأنّه يُخاطب شعب من خارج المملكة، ويعرف على وجع اليَقين أنّ المملكة لا تمتلك بالأصل قاعدة صناعيّة على البرّ، لتتّجه فجأةً إلى إنشاء ما أُطلق عليه "أكبر مدينة صناعيّة عائمة في العالم"، ولا ما هي أسباب تبنّي أفكار تكنولوجيّة سابقة للغرب نفسه، حين نبني أكثر المدن الذّكية والخضراء ونقلّل انبعاثات الكربون ونُقيم مشروعًا لما يُسمّى "إنترنت الأشياء"، وما هو العائد المنتظر منها للمواطن!
من العدل أن نقول إنّ المنطق الذي قامت على أساسه مشروع "نيوم" بالكامل، هو منطق التّغيير والمستقبل وهو سليم ومطلوب بشدّة، وتقع المدينة في المنطقة التي تستعدّ لتكون محوَر جزء مهمّ من التّجارة العالميّة، حيث يمرّ بها حاليًا نحو 13% من حجم التّجارة العالمية، لكنّها من المنتظر أن تشهد طفرة هائلة، مع دخولها كجزء من خُطط العملاق الصيني لمبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى خُطط المملكة الخاصّة بتنويع الاقتصاد القائم على النّفط إلى اقتصاد صناعي متطوّر.
وفي كلّ الخُطط السّعودية للمستقبل، تبرز أهميّة منطقة البحر الأحمر، كمرتكز للعبور إلى الأهداف الكبيرة الموضوعة، إذ تضمّ منطقة البحر الأحمر بالكامل 20 دولة مطلّة أو ترتبط تجارتها به بالكامل، وهي المنطقة النّاشئة الأضخم والأسرع نموًا في العالم، وفوق كلّ شيء: المنطقة الأقلّ استغلالًا من قبل الدّول المطلّة عليها، إذ تندر وجود مناطق اقتصادية مُتكاملة على شواطئ البحر الأحمر، تقدّم الخدمات اللّوجستيّة، وتستفيد من عبور كلّ هذه التّجارة في إنشاء مناطق صناعية أو خطوط تجميع متكاملة.
وفي توقّعات تقرير الأمم المتّحدة الإنمائي للمنطقة ما يفسّر السّرعة السّعودية في استكمال إنشاء مشروع نيوم الكبير، إذ تتوقّع أرقام المنظّمة الدّولية ارتفاع عدد سكان المنطقة من 620 مليون نسمة حاليًا إلى 1.3 مليار، خلال الـ 30 عامًا المقبلة، مع توقّعات بزيادة في الطّبقة المتوسّطة بالمنطقة، تعزّز من فرَص وجود أسواق عملاقة ستَخلق طلبًا هائلًا على السّلع والخدمات.
كما يتوقّع التّقرير زيادة هائلة في عدد السكّان، فقد توقّع زيادة التّجارة المارّة بمنطقة البحر الأحمر من 2.5 تريليون دولار حاليًا إلى 5 تريليونات في 2050، كما توقّع ارتفاع الدّخل القومي لدول المنطقة إلى 6 تريليونات دولار.. وهذه الأرقام كلّها تكفي وزيادة لكي يكون هذا المشروع رهانًا على المستقبل، وحلًا لأزمة ما بعد عصر النّفط، كما أنّه من المستبعد أن تستطيع أي دولة متشاطئة على البحر الأحمر مجاراة المشروع السعودي الهائل.
الذّهاب إلى مشروع "نيوم" بتكلفته الهائلة، والبالغة نحو 500 مليار دولار، مصلحة وطنيّة أكيدة، للتّحول إلى الدولة رقم 1 في مستقبل أكثر المناطق الاقتصادية الواعدة، وأحد أهم الممرّات المائيّة اليوم وغدًا، لكن الخُطَط التي قام عليها المشروع بها من الثّغرات ما لا تُخفيه التّدفّقات الماليّة الضّخمة المطلوبة.
بَدايةً، فإنّ المشروع كلّه قائم على شخص أكثر من كونه جاء كفكرة وطنيّة جامعة، ومطلوبة بشدّة، وكلّ رجل حكم يتمتّع بالحدّ الأدنى من الذّكاء، لا بدّ له من أن يستر تلك المساحة الدّقيقة الفاصلة بين سعيه لمجد يدور حول ذاته، وبين مصلحة الوطن كلّه في التّغيير، بشكل يجعل مقبولًا من غالبية مواطنيه أن يدفعوا ثمن الانتقال من عصر إلى عصر، ومن نظام اقتصادي إلى آخر، ويُقنعَهم بتحمّل سنوات من الكدّ والاجتهاد في سبيل التّغيير المَنشود.
والحقّ الذي ينطق به واقع الحال، ودون جهد كبير في التّحليل، فإنّ التّغيير الوحيد الذي يمكن الوثوق به، هو في واقع الأمر خطاب جامع يملك من قوّة التّأثير ما يحوّل رسالتَه إلى قواعد عمل ومرتَكزات ومؤسّسات، وأن يتّصف الخطاب بمَقدرة على الإقناع تحوّل الإيمان به إلى حيويّة تُلهم وتدفع المجتمعات إلى البَدء فورًا بالتّغيير المَنشود، وبالطّبع لن يكون الخطاب مؤثرًا على وجدان شعب كامل
إلّا بقدر ما يكون معبّرًا عن آمالهم وتطلّعاتِهم، ولن يكون معبّرًا إلّا بمقدار ما يُثبت مصداقيّتَه ليحصل على الثّقة المجتمعيّة للسّير وراءه.
ويبقى سؤال اللّحظة الحاليّة هو: هل يملك ولي العهد بالفعل هذا الخطاب الوطني المنتظر، وبقدر ما ستكون الإجابة سيكون المستقبل، فالتّغيير لن يُصبح أبدًا رهنًا لإرادة حاكم أو لحظة إلهام فردي، مهما بلغ شأن الفكرة أو مناسبَتها، المجتمعات الحيّة وحدَها قادرة على إطلاق مشروع هائل نحو المستقبل، يجعل من كلّ مواطن فاعل في رسم هذا المستقبل، وبالتّالي مقتنعًا بدفع تكلفته، وإلّا فالنّسيان كان –ولا يزال- مصير كلّ من اختار السّير وحدَه.