(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تطوّرات متسارعة ومتلاحقة يشهدها عالم اليوم، أصبحت أكبر من أن تتجاهلها العقول أو تخطئها العيون. وهي تتعلّق بالقمّة التي تكاد تخسف بالولايات المتّحدة الأميركيّة، والقاع تحتها يمور بصراعات هائلة، ووضع اقتصادي عالمي صار متجهًا إلى تغيير جذري وشامل عبر سيطرة عنوان واحد على الجميع، وهو "كسر هيمنة الدولار الأميركي".
إنّ كلّ زمن جديد يكون له بالطبيعة عنوان، وهذا العنوان قد يكون كلمة وحيدة محمّلة بالشواهد والدّلالات، وقد يكون مفتاحًا لباب جديد يطلّ على مستقبل. ووصف الزمن وحيازة مفتاحه لا بدّ وأن يجري بفهم وإدراك كاملين للواقع وتحديّاته، وإلّا فإنّ جُلّ ما سيجنيه أي نظام حكم يندفع من دون وعي هو كسر المفتاح؛ ولكنّه لن ينجحَ في عبور البّوابات، وسيكون عاجزًا عن مجاراة التغيّيرات الكبرى التي يشهدها العالم، وتكاد تتحوّل إلى حقائق وتضاريس جديدة.
إنّ قصّة إنهاء شكل السّيطرة الأميركيّة على العالم، والمتمثّل في كون عملتها هي المعيار الأوحد للتبادل التجاري الدّولي، لم يعد أمنيات ولا أحلامًا سعيدة تغازل البعض في ليل؛ بل تحوّل إلى الحلّ والمفتاح لعمليّة امتلاك الحدّ الأدنى من سيطرة الدّول وسيادتها، عبر كسر هذا الاحتكار الأميركي المستمر لثروات العالم، ونهبها الفاضح للموارد، وقدراتها الشيطانيّة على التدخّل في شؤون غيرها، والعبث غير المسؤول بمصائر الشّعوب وأحوالها.
الجهود الصينيّة والروسيّة لتحجيم الدولار، والتي بدأت دول أكثر تدعمها وترى فيها الخلاص من كابوس السّيطرة الأميركيّة المستمر، بدأت تؤتي أكلها أخيرًا. إذ إنّ نصيب الورقة الخضراء من التبادل التجاري العالمي قد سجّل تراجعًا من 80% إلى 59%، خلال السّنوات الخمس الأخيرة، وتتنبأ بنوك استثمار عالميّة بأنّ مزيدًا من التدهور قادم في الطريق، عقب تبنّي تجمّعات اقتصاديّة ضخمة لعمليّة تبادل بالعملات المحليّة، مثل تجمع "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" ودول "الآسيان"، وكلّها دول وازنة تتمتّع بمعدّلات نمو هائلة، ونصيب في التجارة العالميّة هو الأكبر.
لقد كانت الرغبة الأميركيّة الجامحة نحو فرض السّيطرة الخشنة على الدّول والحكومات الرافضة للخضوع لتلك الرغبات والتماهي مع مشيئتها، هي السّبب الأوّل وراء هذا التدهور. والملياردير الأميركي "إيلون ماسك" كان ذكيًا كفاية ليدرك أين يكمن الخلل. فقد قال إنّ استخدام "واشنطن"، بشكل مستمرّ، للدولار أسلوبًا للعقوبات والسّيطرة على الأعداء؛ بل والحلفاء أيضًا، سيُنهي مرحلة السّيطرة العالميّة للولايات المتّحدة؛ حيث سيكون الوقود لفكرة التخلّي عنه بصفته عملة تسويات عالميّة وحيدة.
لكنّ التقارير العالميّة المتعلّقة باحتمالات نهاية سطوة الدولار تراها عمليّة "إزاحة" لا "كسر"، والصّين المثابرة لن تتخذ قرارًا بوقف التعامل بالدولار أو هي لا تريد انهيارًا سريعًا وكاملًا. وذلك؛ لأنّها أولًا: تمتلك سندات خزانة أميركيّة ضخمة، فلن تخسر الكثير، مع أنّها ستخسر السوق الأميركيّة الكبيرة، وهي ثانيًا تتعامل بمنطق التاجر- بوجه عام - في علاقاتها الدوليّة.
لكن هناك سؤال: ما هو الممكن أن نراه سعوديًا في هذه الأحداث الكبرى؟ وكيف نتصرّف أمام هذا الوضع المربك؟
إنّ أوّل حرف في الإجابة؛ سيكون الإشادة الواجبة بالخطوات الأخيرة للحكومة السعوديّة بالذهاب إلى توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي وسياسي كبيرة مع الصّين، وبالسّير خطوة جديدة نحو تصفير مشكلات وأزمات المنطقة. وهو ما تمثّل في: إعلان الهدنة في اليمن، إعادة العلاقات مع إيران، الابتعاد عن تسخين الخلافات والصّراعات المدعومة من الحليف الأميركي.
أمّا الخطوة الناقصة، في التعامل السّعودي، مع الموقف الجديد، لا بدّ وأن يدور حول السّياسة الاقتصاديّة، والتي ثبت - بشكل واضح قاطع- عجزها وفشلها. إذ يتوجّب الآن العودة إلى مناقشة الخطط الإستراتيجيّة المتعلّقة بـ "رؤية المملكة 2030"، والإفادة من دروس فشل خطّة التحوّل الوطني 2020، والبؤس الشّديد الذي يسيطر على متخذ القرار الاقتصادي في المملكة.
لقد ذهبت الأعباء والتكاليف الهائلة كلّها التي ابتلعتها أهداف رؤية المملكة كثقب أسود إلى الفراغ. لكنّها، وفي الوقت ذاته، لا تأتي من الفراغ، كونها تتحوّل من بنود اتفاق على الخدمات، والتي يفترض أن يحصل عليها المواطن العادي، إلى سفهٍ وتبذير على أوهام من الرفاهيّة، لم تتحقق في العام 2020، ولن تحدث في العام 2030 ولا في العام 3030.
لن تنجح التنمية المنشودة ببناء مدن ذكيّة ووسائل مواصلات تقودها الروبوتات، ومدن عائمة في الصّحراء. إنّ الدّول تبدأ بإنشاء الصّناعات ثم تغيّر مدنها وشوارعها إلى الأفضل، وفي حال قررت الاعتماد على استيراد منجزات الرفاهيّة؛ ستظل إلى النهاية في قائمة المشترين والمستوردن، ولن تتحوّل أبدًا إلى دولة حقيقيّة.