(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
لا يُعرف على وجه التحديد من هو مخترع البوصلة المغناطيسيّة، ربما يعود أوّل ذكر لها إلى أسرة "هان" الصينيّة، قبل قرنين من الميلاد، حين عُثر على أوّل نسخها، مع ظهورها في الوقت ذاته في العالم العربي وجنوب أوروبا. وربما يعود الأمر إلى الأغريق القدامى الذين انتبهوا مبكرًا للمجالات المغناطيسيّة للأرض. ولكن لا أحد يمكنه القطع بيقين في ذلك، والأمر الوحيد المفروغ منه، هو أنّ الجميع كان يبحث عن معرفة الاتجاهات، فقد برع أهل الصحراء العربيّة في معرفة النجوم، ومواقعهم على الأرض، كما عرفوا "القيافة" لاستنتاج الطرق عبر قصّ الأثر وتتّبع المدلولات وخطوات من سبقهم.
في الحقيقة؛ فإنّ رحلة بلا بوصلة لن تصل إلّا إلى مصير واحد مؤكّد ومروّع، وهو التيه، أقسى ما قد يواجهه شخص أو يقع في فخّه شعب ما. فمنذ قوافل التجارة القديمة حتى اليوم، يبحث الإنسان عن أيسر السّبل لبلوغ أهدافه، وأقصرها وأكثرها أمنًا. وهو في هذا يتبع الغريزة البدائيّة للسلامة، مع حفاظه على ضرورات الوصول لأهدافه وتحقيق نتائجه من أي حركة.
في هذه الأيام بالذات، مع اشتداد وتيرة الحرب الروسيّة المشتعلة في أوروبا، والتصميم البادي من "واشنطن" على كسر إرادة موسكو، وتحطيم ما تبقّى لها من بقايا دور ومن محيط آمن، والتحرّكات التي تقودها الصّين وروسيا ودول البريكس للتخلّص من هيمنة الدولار، والمفاجآت المتتالية، سواء المتعلّقة بموجة التضخّم العالميّة القائمة، والتذبذب الدّائم في أسعار السّلع والطاقة، والتداعيات المدمرة لكلّ هذا على مستقبل الاقتصاد السّعودي، فلا يبدو من حديث أهم من ضرورة تنويع موارد الدّولة، وتغيير النمط الاقتصادي القائم على برميل النّفط وحده.
في هذا الإطار، لا يبدو شاهدًا أكثر وأوفى من زيارة وليّ العهد "محمّد بن سلمان" إلى فرنسا، فهي تكشف مدى فهم وتركيز سياسة "باريس" وتعاملها الذكي مع الأزمة العالميّة، وسعيها الحثيث إلى الإفادة من متغيّراتها في تعزيز مكانتها الدوليّة ودورها العالمي، حتى وإن كانت في الظّاهر تحاول إغواء الحلفاء المتردّدين بدعم "واشنطن" في حربها ضد روسيا، وبين السّياسة السّعودية التي تذهب وتعود، ثم تذهب وتعود، بلا هدف ولا رجاء.
إذ تتضمن الأجندة المعلنة لزيارة وليّ العهد محاولة ضمّ صوت فرنسا لصالح استضافة المملكة لمعرض "إكسبو 2030" في الرياض. وهدف ثانٍ؛ يتمثل بغسيل سمعة النّظام السّعودي المتصدعة بشدّة في أوروبا والغرب، لأسباب كثيرة، ليس أوّلها مقتل "خاشقجي" ولا آخرها حملات الاضطهاد الممنهج والواسع لأي حراك في المملكة، والسّمعة المشينة لأجهزتها الأمنيّة. هذه كلّها أهداف لامعة؛ لكنّها في الواقع وعلى الأرض لا تحمل أي جديد للمملكة ولا للشعب، هي مجرد إعادة رسم صورة الحاكم في الإعلام الغربي، هذا إن كانت ستنجح من الأصل.
لكن تعلّمنا الخبرة التاريخيّة ألا نثق تمامًا بالخطاب الرّسمي للأنظمة، العربيّة بالذات. فالواقع القائم لا يقول إنّ ثمّة تغيير في نهج الأنظمة الحاكمة وطريقها، حتّى وإن بدت الظروف مواتية والوضع، العالمي يتحمّل مغامرات محسوبة تجاه حلفاء جدد. فـــ"فرنسا" التي سبق أن زودت العراق بمفاعل "أوزيراك" النووي، والتي تتبنى أحيانًا سياسات خارجيّة مستقلّة عن واشنطن، وتحاول أن تعود إلى المنطقة الغنيّة بمواردها ومستقبلها، كان يمكن الرهان عليها لإعادة إحياء فكرة المشروع النّووي السّعودي، وكان يمكن أيضًا دفعها بسهولة لإقامة شراكات صناعيّة كبرى في المملكة، وكان يمكن لـــ"فرنسا" الباحثة عن دور أن تفيد الرياض الباحثة عن مجال نفوذ أوسع وأكبر وأعمق في المنطقة العربيّة.
لا تعدو زيارة وليّ العهد إلا ترويجًا شخصيًا يسعى للحصول على "كأس العالم للبناء" كما يحلو للبعض تشبيه معرض "إكسبو". وتاليًا؛ فإنّ تخطيط زيارة فارقة في وقت دقيق لم يكن على المستوى أبدًا، ليس من باب التشكيك في نتائجها، لكن من باب الثّقة في المقدمات والأسباب. إذ إنّ وليّ العهد يهدر بكفاءة، لا يحسد عليها، فرصة تقديم نموذج أو بوصلة لشعبه في وقت حرج. والشّعوب المأزومة أخلاقيًا ونفسيًا يتحوّل الوطن بالنسبة إليها وسيلة، لا غاية، والقيم إلى مساحيق تجميل تستخدمها بكثافة في الحفلات والمناسبات وليالي الترفيه، ولا تعرف من نفسها والعالم سوى المصلحة الأنانية الحقيرة، وهي كشكل بدائي تحرّكها إما الغريزة وإمّا الخوف.