(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تتمثّل المهمّة الأولى لأي قيادة ناجحة وكفؤة، في فهم مجتمعها ومحيطها. تقوم بعد ذلك بالاجتهاد في تجسيد الأحلام الطبيعيّة لشعبها وتطلّعاته، وتحاول أن تتخذ أفضل الطرائق والوسائل لتحقيق ما يرنو إليه النّاس. وهي في هذا كلّه تحشد الجهود والموارد والإمكانات، وتزيل العوائق أو تضخّ المحفّزات إلى البدن والأطراف؛ حيث تضمن استمرار الرغبة والسّعي الحثيث الجاد، وعبور المنحنيّات والمزالق بأقل الخسائر والتكاليف.
يعلّمنا التاريخ الإنساني أنّه، دائمًا وأبدًا، ما تتحمّل الشّعوب الأثمان الباهظة، وتتقبل فوق ذلك دفع التضحيات الغالية، إذا ما لمست صدق قيادتها. والشّعوب، أيضًا، تمنح ثقتها إذا ما اقتنعت فعلًا أنّ أهدافها وأولويّاتها هي عينها أهداف قيادتها، وإذا ما تأكدت بوجود الفهم المتبادل من أعلى هرم السّلطة إلى أسفله، فالمجتمعات الحيويّة تستطيع حتّى في الظروف الصّعبة أن تخلق من المستحيل واقعًا حيًا على الأرض.
خلاف ذلك، فإنّ محاولات فرض أهداف لا يعرفها النّاس، ولا يطمئنون إليها ولا يفهمونها، لا تُعدّ أكثر من وصفة فشل مؤكّد. وإذا ما كانت أهدافًا غبيّة يجري فرضها بقوة السّلطة وقهر الحاكم، ولدواعٍ لا تبدو للشخص العادي مفهومة، ولمقاصد لا يظهر فيها للمجتمع نفع أو مصلحة، فإنّ جلّ ما سيجنيه الحاكم والمحكوم في هذه الحال الشّاذة هو كارثة "الفوضى" المدمّرة.
روّج الأمير السّعودي "محمّد بن سلمان" مشروع "نيوم"، في مؤتمر صحفي عالمي وغير مسبوق، في فندق "الريتز كارلتون" السّيء السّمعة في العاصمة "الرياض". وأوضح أهدافه المعلنة من المشروع الضّخم، والذي يمتدّ على مساحة هائلة من الأرض شمال غرب المملكة، والتي تفوق مساحة بلجيكا، معلنًا رصد 1/2 تريليون دولار للمشروع، ويتمتّع بخيال جامح في تصوّراته عن مجتمع جديد متكامل قادر على أن يكون "النموذج" في التغيير الذي يحلم به الأمير.
جرى عرض مخطّطات تُصنّف في فئة الأغرب من الخيال، عن مباني لولبيّة ومطار فضائي ومشروع شاطئ الفضة ومحطّات هائلة لإنتاج الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجدّدة، ومحطات أكبر لتحلية مياه البحر، ومباني تحت الأرض بشكل كامل، وأخرى مبنية على المياه، ومرافئ لليخوت الفاخرة، وشبكات متّصلة من أحدث ما عرفه علم الاتّصالات والحوسبة والذكاء الاصطناعي، وغيره من أفكار تبدو عند تفحّصها خياليّة أكثر من أي شيء آخر.
تقع "نيوم" بالكامل في منطقة صحراويّة ممتدّة وشاسعة وشديدة الجفاف، ولا توجد قيها مصادر مياه عذبة، وترتفع فيها درجات الحرارة لمستويات قياسيّة. وفوق ذلك، هي تبتعد كثيرًا جدًا عن المراكز السّكانيّة والحضاريّة للمملكة، وحتّى سكانها القلائل طُردوا منها لإتاحة الفرصة أمام شركات المقاولات الأجنبيّة ومهندسي الإنشاءات للبدء من الصّفر في أعمالهم، ومن دون التقيّد بأي حدود.
فما الذي جرى في "نيوم" بعد ثماني سنوات من التخطيط والعمل وتخصيص موارد هائلة وخزائن مفتوحة لا تغلق؟!...
الحقيقة، أو النتيجة هي الصّفر فقط، إذ لم يتحوّل ولو جزء من المخططات والأوهام وعمليات المحاكاة التي قُدّمت إلينا وقتها إلى مشروعات على الأرض، قائمة تشهد بإنجاز ما... والأغرب أنّ الهدر ما يزال مستمرًا على أشدّه، في محاولة بائسة لتصوير أي تغيير قد حدث.
أكّدت شبكة "بلومبيرغ" الأميركية، في تحقيق لها عن مشروع "نيوم"، أنّ العوائق أمام هذا الحلم تتزايد وترتفع مع سوء إدارة شديدة من وليّ العهد شخصيًا، والذي يعود له الأمر الفصل في كلّ شيء يخصّ مشروعه المروّع. فقد أجرت الشّبكة مقابلات مع موظّفين ومستشارين سابقين، كشفوا خلالها عن عمليّات إهدار هائلة تصاحب كلّ خطوة، وبالذات ما حدث في شاطئ الفضّة؛ حيث أنفقت مليارات الدولارات على التّصاميم وخطط التنفيذ التي رغب "ابن سلمان" أن تجري على عجالة، ثم ببساطة أُلغي المشروع!.
كان من المنطقي للبعض أن يستمرّ المشروع، فالرواتب كبيرة والموارد بلا حساب، لكنّ بعضهم اختار احترام نفسه والابتعاد عن مشروع تأكّد من فشله. فقد فضّل كلّ من "إرنست مونيز" وزير الطاقة الأميركي الأسبق و"سام ألتمان" رئيس "واي كومبيناتور" ونورمان فوستر المعماري البريطاني الشهير التّخلي عن عضويّة "مجلس نيوم الاستشاري"...
فيلسوف الاقتصاد السّياسي وعالم الاجتماع والمؤرّخ الاقتصادي "كارل بولانيي" كان صاحب نظريّة شهيرة عن "التحوّل العظيم". ومؤدّى أفكاره أنّ إحداث التغيير المطلوب في حياة أي مجتمع هو مجموعة عوامل تتضافر وتمتزج؛ حيث تستطيع طرح فكرة التغيير أولًا، ثم حملها إلى طريق صحيح، يحتاج كلّ تحوّل إلى فاعل تاريخي وإلى مجموعة عوامل سياسيّة واجتماعية واقتصاديّة تدعم وتساعد وتسند الأفكار الجديدة، يعملون على تمهيد الظروف التاريخيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة السّائدة في عصرهم، ويكافحون بدأب واستمرار على تطويع مواردهم وحشدها لتحقيق هدفهم، وضمان قبول أغلبية المجتمع لدفع نصيبها من تكاليف هذه العمليّة كلّها وانخراطها في طريق العمل المنشود..
بهذه الشروط، فقط، يؤمن "بولانيي" أنّ النخبة تستطيع تحقيق التغيير في وطنها، وربما في منطقتها والعالم كلّه.