(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يتعامل كثيرون مع مقولة إنّ "التاريخ ليس سوى كذبة كبرى رواها المنتصرون"، وهي منسوبة إلى القائد الفرنسي "نابليون بونابرت" على أنّها حقيقة كاملة، وأنّنا حين نقلّب في صفحات الماضي نرى ما حدث بعين من استطاع فعلًا الانتصار/ البقاء حتى حان وقت كتابته، وتمكّن من نفي رواية الآخرين كلّها ودفعها إلى النسيان.
قد يكون هذا صحيحًا بالنسبة إلى الغالبيّة، لكنّ التاريخ يمتلئ بأحداث تروي الحكاية الحقيقيّة، أو على الأقل الأخرى، تنتظر من يبحث عنها في شغف، ويحاول أن يتعلّم دروسها عبر من عاشوها فعلًا، ودفعوا أثمانها.
اليوم؛ ينتشر في علم الإدارة مصطلح فريد هو "تأثير ميديشي"، والذي أطلقه "فرانس يوهانسن" رائد الأعمال الأميركي صاحب الأصول السويديّة. وهو صاحب المصطلح الذي أطلقه، في كتاب بعنوان "ماهيّة تأثير ميديشي" في 2004. إنّ الفكرة التي حرّرها هذا الرجل من قراءة تاريخ فلورنسا، في عصر قادت فيه نهضة القارة الأوروبيّة، وعبرت بها ظلمات العصور الوسطى، قد يكون الأكثر إفادة والأعظم أثرًا في حياة أي مجتمع يريد أن يتطوّر ويتقدّم ويحقّق الازدهار. إذ ببساطة وضع رائد الأعمال خريطة طريق لمن يريد التغيير والإنجاز، فاستثمر بكلّ ما أوتيت من قوّة في جلب العناصر الفعّالة البّراقة والشّخصيات الناجحة، وهيئ لهم المناخ للعمل معًا لتأهيل المجتمع من أجل تغيير جذري وضخم.
الكتاب الملهم لأغلب حكام العالم الثالث، والعربي خصوصًا، يبحث أصلًا في فكرة إيجاد روابط بين المشكلات والأزمات، وطرح الأفكار الإبداعيّة والحلول الخلاّقة من مختلف المجالات وعلى المستويات كلّها، وتحويل المجتمع إلى حالٍ من "الحركة" اقتداءً بقادة هذا العمل. فقد اشتُق هذا المصطلح من اسم عائلة "ميديشي" التي عاشت، في مدينة فلورنسا في إيطاليا بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر. وجمعت أشخاصًا من شتّى أنواع العلوم والمعارف الإنسانيّة، مثل الأطباء والمهندسين والشّعراء والعلماء والمعماريين، ما أدّى بدوره إلى انفجار إبداعي مذهل في المدينة الإيطاليّة وزيادة مبهرة في الابتكار والأفكار الإبداعيّة، نتيجة تقاطع مجالاتهم وأعمالهم والتعاون فيما بينهم، فأدّى بدوره إلى بداية عصر النهضة في أوروبا، وخروجها من العصور الوسطى المظلمة.
هل هذا ما يفعله حاليًا وليّ العهد السّعودي "محمّد بن سلمان" عبر رئيس هيئة الترفيه "تركي آل الشيخ"؟... بالتأكيد نعم، سواء قرأ الكتاب أم لا، يبدو أنّه قرّر السّير على نهجه، باستقدام ما يمكن أن نعرفه بـ "الظواهر" في المجالات التافهة كلّها: كرة القدم والغناء والرقص والموسيقى والمصارعة وسباقات السّيارات، وغيرها كثير من مجالات التفاهة، حتى كأنّنا نحيا في عصر سباق الجنون الجماعي.
الأكثر ألمًا هو أنّ المشروعات الجديدة التي يُعلن عنها المستشار الملكي تتفوّق على ما سبقها في السقوط والانحلال، بعد أن قال إنّه "نجح"، في حفل "كاسيت 90" بجمع كثير من نجوم الغناء من العصر الغابر في مصر. ققد أعلن بكلّ ثقة وفخر إطلاق مشروع سياحي جديد THE RIG، والذي قال عنه إنّه: "سيكون الأوّل من نوعه في العالم؛ لتصبح السّعودية أوّل دولة في العالم ستحوّل منصّة نفطيّة إلى مشروع سياحي ضخم"!
يحدث هذا مع الأموال الطائلة والخزائن المفتوحة بلا حساب للأندية الرياضيّة، في دوري "روشن"، لاستقدام ألمع نجوم كرة القدم، ومليارات الريالات بلا حصر أُنفقت على عقود لاعبين ورواتبهم، وأكثرهم أنتهت حياته الكروية أو هي على وشك النهاية، بما أجبر الأندية الأوروبيّة على التخلي عن لاعبيها في مواجهة هذه الإغراءات التي لا يستطيع العقل ولا تتمكّن حساباتهم المنطقيّة من مجاراتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ واحدة من آخر الصفقات المدوّية كانت استقدام البرازيلي "نيمار دا سيلفا" من نادي "باريس سان جيرمان" إلى "نادي الهلال"، مقابل 90 مليون يورو للنادي الفرنسي، وسيحصل اللاعب على راتب 300 مليون يورو في موسمين فقط، أي أنّه أصبح صاحب أعلى راتب للاعب كرة قدم على الإطلاق!!.
هذا كلّه يحدث في بلد تدور فيه نسب البطالة الرسميّة بين الشباب حول 3%، وهي نسبة ضخمة في بلد يوجّه كلّ هذا الإنفاق الاستهلاكي للحفلات والألعاب والمهرجانات. ففي كلّ بيت في الطبقة الوسطى هناك قنبلة مؤقتة هي شاب عاطل، ويحاصرها في الوقت ذاته هذه الدعاوى المنفلتة للترفيه والاستمتاع وتجربة الحياة الجديدة. وهي لعبة خطرة بكلّ المقاييس، إذ تترك الناس بين خيارين، أوّلهما التحليق في الوهم من دون أجنحة، والثاني الهروب إلى الطريق العكسي.=
لكنّ.. الحكاية التاريخيّة البديلة تقدّم لنا وجهًا آخر، ونتيجة منطقيّة لتطبيق معادلة "آل ميديشي"، ففي النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وفي عزّ سطوة الأسرة الملكيّة الغنية، نظّم الراهب الدومينيكاني "جيرولامو سافونا رولا"، والذي لقّبه أهل فلورنسا بــــ"واعظ القانطين" مواجهة كبرى ضد مظاهر الترف الباذخ والإنفاق المذهل على اللوحات والقصور والمنحوتات، وانفجر أتباعه مثل الإعصار في وجه الظواهر الشاذة التي رآها تجتاح المدينة الإيطاليّة، وعبر مؤيديه- عمّال النسيج والأصباغ ومن حولهم من صغار الحرفيين- استطاع السيطرة على المدينة، ونظّم حملة شعواء لحرق كلّ ما ينتمي لهذا العصر. وسُمّيت هذه الحملة بأيام "حرق الأباطيل"؛ حين طاف المراهقون المتدينون على المنازل مطالبين السّكان ان يحرقوا الملابس الفاخرة وأدوات المائدة المذهبة والتماثيل الرخاميّة واللّوحات الثمينة، في الميدان الرّئيسي في المدينة.