(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تتنوّع تعريفات علم الاقتصاد الأكاديميّة، لكن أغلب الباحثين يميلون إلى تعريف واضح لهذا العلم في أنّه أحد العلوم الاجتماعيّة، والذي يهتمّ بتحسين الحياة الماديّة للإنسان. وهو علم يستهدف توظيف الموارد النادرة نسبيًا، وذات الاستخدامات المتعددة لإنتاج السلع والخدمات وتوزيعها بين أفراد المجتمع، وذلك بهدف إشباع حاجاتهم ورغباتهم.
اللّغة العربيّة، بوصفها إحدى أكثر اللّغات امتلاكًا للألفاظ ذات الدلالة والثراء بالمعنى، تمنحنا تعريفًا آخر أكثر شموليّة. فالاقتصاد لغة من الجذر "قصد"، والقَصدَ هو الوسط بين الطرفين، والقَصدُ إتيان الشيء، والقَصد في الشيء خلاف الإفراط. ومن دون غرق في تعريف أكاديمي جامد بطبعه، أو تعريف لغوي واسع وفضفاض مهما كانت بلاغته وقدرته على التبيين، فإنّ المؤشرات الاقتصاديّة "الرقميّة" هي أهم وأرقى حاكم على مسيرة بلد أو مجتمع، في أي لحظة، وفي كلّ ميزان حساب.
يضع الاقتصاديون 3 مؤشرات أساسية لقياس حال مجتمع ما، وهي نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي/ أو الدخل، ومدى النجاح في تغيير أو تعديل الهيكل الاقتصادي للدولة وتحقيق التنوّع في مصادر الإيرادات ورفع نسبة الصناعة التحويلية من إجمالي الإنتاج؛ حيث كلّما زادت نسبتها ترتفع كفاءة الإدارة الاقتصاديّة للدولة، وأخيرًا مدى العدالة في توزيع الدخل، ومنع تركز الدّخول في أيد قليلة، وضمان تحقيق المساواة في توزيع ثمار النمو.
مع حديث الأرقام، التي لا تعرف التجميل الحكومي أو تقبل الترقيع الرسمي، فإنّ مجلة "CEOWORLD" المتخصّصة، قد أصدرت في نهاية آب/ أغسطس الماضي، قائمتها لترتيب الدول من حيث متوسط صافي الدّخل الشهري للمواطن، والذي يغطي العام 2022,. في هذا التصنيف الشديد الوضوح؛ المملكة العربيّة السعوديّة جاءت في المرتبة الثالثة عربيًا، والمركز الخامس والعشرين عالميًا من بين 104 دولة فقط شملها التقرير، بمتوسط دخل شهري للموظف 1888.7 دولارًا، وحلّت المملكة خلف الإمارات –الخامسة عالميًا- بدخل يبلغ الضعف تقريبًا أو 3663.3 دولارًا، ثم قطر التي حلّت في المركز الحادي عشر عالميًا عالميا بدخل شهري للموظف 3168.1 دولار.
هذا المؤشر فوق التأخر السعودي الساحق فيه، لا يضع في الحسبان الأسعار السائدة في بلد ما، ولا يعني في الأساس بمناقشة التفاوت المرّوع في توزيع الدّخل، وهي فادحة على مستوى العالم العربي ككل، إذ أزاحت المنطقة العربيّة قارة أميركا الجنوبيّة التي كانت تقليديًا أكثر مناطق العالم معاناة من سوء توزيع الدّخل، ويقول البنك الدولي في تقاريره إنّ العالم العربي هو الأسوأ على الإطلاق فيما يتعلق بغياب العدالة في توزيع الدخل، حيث يستحوذ 10% فقط من السكان على ثلثي الدخل القومي، مقارنة مع نسبة 37% من الدخل القومي إلى أغنى 10% من الأوربيين و41% في الصين و55% في الهند.
وإذا ما وُضع الرقمان جوار بعضهما البعض، فإنّ هذه البلد لا يجب أن تعرف للنوم أو الهدوء سبيلًا، اليوم وغدًا، وإلى أن تنصلح عمليّة الأجور وتوزيع الدّخول على مواطنيها وفي مختلف مناطقها.
المؤشر الثاني، وهو الأهم، تحقيق التنوّع في مصادر الإيرادات، وهم أحد أهم أركان رؤية المملكة 2030، المعلنة والقاطعة، وهو هدف يبدو أنّه يبتعد ولا يقترب، بالعودة إلى اللّجنة الرسميّة المسؤولة عن البيانات في المملكة، لا غيرها.
خلال العام 2022، ورغم انخفاض عائدات النفط إلى نحو 80 دولارًا فقط للبرميل انخفاضًا من ارتفاعها القياسي عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد كشفت الهيئة العامة للإحصاء في السعوديّة عن ارتفاع صادرات النفط في المملكة لتتجاوز 326 مليار دولار في العام 2022. وهي أكبر مبيعات نفطيّة حققتها الرياض منذ عقد كامل، لتصبح المملكة أسرع اقتصاديات مجموعة العشرين "G20” نموًا خلال العام المنصرم.
الإيرادات القياسيّة من النفط انعكست فورًا على أرقام النمو المتحقق، وقالت الهيئة العامّة للإحصاء إنّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للمملكة، نما خلال العام 2022 بنسبة 8.7% مقارنة بعام 2021. في المقابل؛ فإنّ الهيئة كشفت عن ارتفاع نسبة صادرات النفط من إجمالي الصادرات من 71.9% في ديسمبر/ كانون الأول 2021، إلى 79.0% في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي 2022، ببساطة فإنّ أسعار النفط المرتفعة دفعت النمو، وفي حال عاودت الانخفاض فستعاود الميزانية إلى الانكماش والتراجع والتقشف.
يأتي هدف جذب الاستثمارات الأجنبيّة لتعزيز قدرات القطاع الخاص، ليعكس بصورة واضحة هدف تشجيع القطاع الصناعي بشكل عام. فالبنيّة السعوديّة التشريعيّة، وغياب البيئة المناسبة لعمل الشركات وانعدام القوانين الواضحة والعادلة لخلق فرص في قطاعات عدّة والترهل الإداري للدولة وغياب الكفاءة والقدرات عن أجهزتها الرسمية، تزيد كلّها من تعقيدات الوضع الاستثماري عمومًا، فالسعوديّة ما تزال فرصة لرأس المال الأجنبي، لكّنها لم تتحول إلى وجهة استثمارية جيدة وآمنة.
هذا هو ما تحقّق على أرض الواقع بمناسبة الحديث عن تطوّر ما في المملكة. فالحقيقة أنّ إهدار مليارات الدولارات على مواسم الترفيه والحفلات والشذوذ هو ما يجري أمام أضواء الكاميرات وتحت أنظار القصور، بينما تتراجع قدرة المواطن، يومًا بعد الآخر، على تغطية احتياجاته الإنسانية الأساسية، مع التزايد المضطرد في التضخم ومعدلات البطالة والتوسّع المرعب في نسب الفقر، وغياب البنية الأساسية المتطوّرة عن أغلب المناطق الفقيرة.
اليوم، يكون قد مرّ أكثر من ثماني سنوات على إعلان رؤية 2030، ويتبقى أقل قليلًا من 7 سنوات على الوصول لخط نهاية السّباق... اللّحظة أو الأجل المحدّد من قبل ولي العهد الأمير "محمّد بن سلمان"، هذه اللّحظة تستحقّ وقفة تتأمل وتفكر وتحاسب، وتقرأ ما قدم من وعود وما تحقق فعلًا من نتائج.. وهي كلّها سلبية، ولم تقدم جديدًا أفضل للمجتمع؛ بل جلّ ما أسهمت به هو جرّ المجتمع السّعودي إلى لحظة سقوط حرّ، استسلم أمامها الجميع، أو وقف مشدوهًا ذاهلًا لا يعرف سبيلًا إلى منع الارتطام المخيف بالقادم من الأيام..