(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
"عند غياب القيم والمثل العليا والمبادئ، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا ومنهجًا، إنه زمن الصعاليك الهابط".
الكاتب الكندي "آلان دونو"، في كتابه الشّهير: "نظام التفاهة".
جرت العادة على أن تكون المناسبات الوطنيّة الكبرى والتواريخ الفارقة، في حياة الأمم والشّعوب، حبلى بالآمال، شخصيًا ووطنيًا. فالانتقال من عام مضى إلى عام جديد لا يقف عند حدود أرقام تتغيّر؛ بل هي مناسبة تستحقّ وقفة ما، تتأمل وتفكّر وتحاسب. وهي فرصة، أيضًا، أمام توقّعات مختلفة تدفعها أفعال أكثر إصرارًا على تعويض ما فات، ومحاولات للتفاؤل بالجديد، في عصر مختلف، بات يمرّ بسرعة أكبر، رغم ثقل خطاه وصعوبات أيامه.
تحتفل المملكة العربيّة السعوديّة بيومها الوطني الثالث والتسعين، وهي مناسبة جديدة للتفكير والفحص فيما جرى من سياسات وخيارات طوال عام كامل مضى. فمسيرة الأمم لا تكون دائمًا بخطوات ثابتة إلى الأمام، عند غياب البوصلة الصحيحة، فمن الممكن أن تكون الخطوة ردَّ فعلٍ عنيفة إلى الخلف، أو سقوطًا مستمرًا ومروعًا إلى الأسفل، حيث أسوأ التوقعات ممكنة الحدوث، وأصعب الأوقات لمّ تحلّ بعد.
الاحتفال باليوم الوطني، هذا العام، جاء باذخًا وفجًا، وبإسراف غير مسبوق، حيث ضمّت قائمة المدن التي شهدت عروضًا وفعاليات 18 مدينة، وشهدت عروضًا جويّة وبحريّة وحفلات لمطربين سعوديين وعرب، وفقرات مبهرجة ومتنوّعة أشرفت عليها "هيئة الترفيه" بالأمر المباشر من وليّ العهد، وصورًا وإعلامًا برّاقة وُزّعت في طول المملكة وعرضها للملك ووريثه القادم، وأطلقت الشرارة الأولى لها من كورنيش "الخبر" وحديقة "أم عجلان" في الرياض وكورنيش جدة وبريدة وأبها وغيرها.
شعار اليوم الوطني، هو الآخر، جاء مثيرًا "نحلم ونحقّق"!!... فقد قال بيان هيئة الترفيه التي أعلنت عنه، إنّه "استلهام شعار هويّة اليوم من الأحلام التي أصبحت قريبة وواقعية"! إلى هنا يكفي الكلام للإخبار عن الحال، أو الانفصال المريع عن الواقع الذي يعيشه واضعوه ومخطّطوه وأصحاب القرار فيه.
ما يعرفه أي شخص في العالم؛ أنّ السعوديّة قد نجحت، وبامتياز، في تحويل هذا اليوم إلى سخرية حيّة وكاملة، عبر احتفالات أقرب ما توصف به إنّها إعلان "تغريب"، عبر الاستعانة بأندية دوري "روشن" ونجومها في الاحتفال بمناسبة وطنيّة خاصة، وكيف قدّمت هذه الأندية كريستيانو رونالدو ونيمار دا سيلفا وكريم ينزيمة وماني، وغيرهم، بالملابس التقليديّة السعوديّة، وصُوروا يشربون القهوة العربيّة ويرقصون العرضة، والحساب –كما يقال- يجمع.
ما يحدث باختصار، وعلى مستوى متدنٍ وبطريقة متسارعة وجنونيّة، هو إفقاد هذا المجتمع لخصوصيّته وتمييع لوعيه وأفكاره، وتحويل مفردة التفاهة –أو الترفيه- إلى واقع مسيطر وأوحد، وطريق لمن يريد أن يُوجد في عالمهم الجديد، مستهدفًا اختراق المجتمع ونظام مناعته وطمس وعيه وكسر إرادته، والنفاذ بأفكاره في الوقت ذاته إلى نسيجه الاجتماعي.. وهو في السعوديّة هشّ للغاية، ويقوم على رغبات الأسر الحاكمة المسيطرة ومصالحها بشكل كامل.
المسكوت عنه، في اليوم الوطني السّعودي الـ 93، هو أنّ الوضع الاقتصادي بلغ حالًا من السّوء بات من الصعب مداراته أو تجميله وترقيعه، ووضعًا لا تصلح معه المسكّنات العادية. ويقدّم لنا كلّ يوم جديد دليلًا إضافيًا على فقر الإرادة وبؤس العقليّة التي تدير المملكة.
إذ في آخر التقارير الاقتصادية الرسميّة؛ أنّ المملكة سجّلت، في النصف الأول من العام الجاري 2023، عجزًا بلغ 8.2 مليارات ريال، 2.19 مليارات دولار، والاقتصاد يتجه إلى الانكماش في إعادة لسنوات "كورونا" السوداء، والتي ما تزال قريبة، حيث توقّع اقتصاديون انكماش الناتج المحلّي الإجمالي للمملكة 0.5% هذا العام، بالرغم من أنّ أسعار النفط ارتفعت لتسجّل 90 دولارًا للبرميل، متراجعة من 100 دولار في العام 2022. وللمقارنة فقط، فإنّه وفي العام الماضي، حقّق اقتصاد المملكة نموًا بنسبة 8.7%، وحقق فائضًا قياسيًا بلغ 2.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، وكان ذلك هو أوّل فائض في تسع سنوات كاملة.
ما يهمّ كلّ بيت سعودي، سواء كان ذلك في اليوم الوطني أم في غيره، هو حلّ مشكلة المشاكل وأزمة الأزمات "البطالة"، ووفقًا لتقديرات الهيئة العامّة للإحصاء، وهي الهيئة الحكوميّة المنوطة برصد وإعلان الأرقام في المملكة، فإنّ معدل البطالة بين المواطنين قد ارتفع إلى 8.5% في الربع الأول من العام الحالي 2023، بالمقارنة مع 8% فقط في الربع الأخير من 2022، وهو ما يعني ببساطة أنّ هناك خطأً يجري، فالوطن من دون تعزيز الانتماء ووضع شبابه على طريق بداية الحياة، لا يحقّ له بالتأكيد أن يحتفل.