(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
حتّى يوم السّابع من تشرين الأول الجاري، كان يُنسب إلى ملكة فرنسا "ماري أنطوانيت" عبارتها الشّهيرة عن حديث أحد جلسائها بأنّ الشّعب لا يجد الخبز، فردّت ببرود: "دعهم يأكلون الكعك". وهي ترجمة للعبارة الفرنسية الأدق دعهم يأكلون "البريوش"، وهو نوع فاخر من المخبوزات، لم يكن بالطبع متوفرًا للشعب الذي افترسه غيلان الجوع والفقر، وألهب ظهره سياط جامعي الضرائب للملك لويس السّادس عشر، والقصة بأكملها كتبها الروائي الفرنسي الشهير "جان جاك روسو".
قد يحلو لبعضهم الطّعن في القصة، من الجانب التاريخي، إلّا أنّها في الأصل ليست حكاية للتسلية، فارغة من المدلولات والمعاني، ولا هي قاصرة على شخصية واحدة، لكنها في النهاية رواية "أو إشارة" إلى طبقة حاكمة لا ترى شعبها، ولا تضعه في أي حسبان أو ميزان. وهي إن رأت، لا تفهم، ولا تريد حتّى أن تفهم ظروفهم وآمالهم وقضاياهم، في نهاية القصة، وضعت "ماري أنطوانيت" وزوجها على المقصلة في وسط باريس، لتكون العبرة قائمة، لمن اعتبر.
شيء من قبيل ما جرى من الملكة الجاهلة يجري في هذه الأيام في العالم العربي، مع انطلاق عمليّة "طوفان الأقصى" وصور الشّجاعة والبسالة والتضحية التي يقدّمها الشّعب والمقاومة في فلسطين العربيّة، وكسرهم لأسطورة ما كان يعرف بـ "الجيش الذي لا يقهر"، وتحطيم أساطير الوهم الصهيونيّة، واكتساح الوهم كلّه الذي كان يصاحب الدّعاية المنتشرة في الدول العربيّة، ومن ثم، لجوء كيان العدو للتصرّف بالعنف المفرط ضد شعبنا الفلسطيني وحصاره، وشنّ حرب أقل ما توصف به إنّها إبادة جماعيّة بحقّ شعب عربي.
بكل اختصار ممكن؛ فإنّ مدينة عربيّة تبلغ مساحتها أقل من 300 كيلومتر، وهي عبارة عن شريط ضيق ومحاصر من الأرض يمتدّ بطول 40 كيلومترًا وعرضها يبلغ 8 كيلومترات، هذه البقعة الصغيرة جدًا، المكدّسة بأكثر من 2.3 مليوني إنسان مثلنا، تخوض وحدها الحرب ضد كلّ إمبراطوريات الشر في هذا الكوكب- أميركا وبريطانيا وفرنسا، ومعهم الكيان الصهيوني، قيامًا بالعبء المقدّس للدفاع عن رمز إسلامي هو "القدس"، والقدس وفقًا للتعريف الراسخ في القلوب هي محور قضية الدّين والوطن والإنسانيّة والشرف والمبدأ.
كان من الضروري أن تقف الدول العربيّة كلّها وقفة واحدة، ليس لفلسطين ولا لشعبها، لكن لله وللدين، موقفًا مبدئيًا يرسّخ القيمة العليا للإنسان المسلم في دفاعه عن شقيقه.، لم يطالب أحد من غزة أو فلسطين بإعلان الجهاد ولا الانخراط في حرب، كل ما طالبوا به إدخال الماء والأدوية والوقود للقطاع المحاصر، والذي بلغت مستشفياته قدرتها القصوى والنهائية من استيعاب المصابين والجرحى والشهداء، حتى هذا الموقف "البسيط" بات يحتاج مطالبة وتذكير!
لكن الأنظمة العربيّة الحاكمة قد قررت مسبقًا أن تدخل التاريخ، بطريقتها التي تجيدها، وإضافة صفحات جديدة في فصول الخيانة الوقحة والخيانة المرة والخيانة الأليمة لكلّ مقدس وكل مبدأ.
يوم السبت 28 تشرين الأول، تصادف وقوع حدثين في دولتين عربيتين، يوصفا بأنهما الأكبر، السعودية ومصر. ففي افتتاح مؤتمر "الجنرالات" خرج أحدهم بأحقر عبارة يمكن أن تخرج من إنسان من لحم ودم، فقال نصًيا: "يا مصريين عيشوا –استمتعوا- بحياتكم".. هذه الحياة التي يمني بها الحاكم شعبه المقهور ليست سوى الفقر والديون والعجز والمرض، ومصر قد بلغ وضعها الاقتصادي حدًا مخيفًا، حيث تنتظر العصابة الحاكمة فاتورة باهظة من فوائد وأقساط الديون المروّعة، خلال العام الجديد 2024، تبلغ 30 مليار دولار، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، وهو ما لن يحدث، ولو وقعت معجزة في زمن لا يعرف المعجزات.
التصرف الآخر، أو الوجه الآخر للعملة، كان في السعودية التي أطلقت المسخرة السنويّة المعتادة "موسم الرياض 2023"، بحضور آلاف الفنانين والمغنيين والمهرجين والرياضيين من جميع أنحاء العالم، ويقام في 3 مناطق رئيسية، هي: سوق الأولين، "رياض زو"، وحديقة السويدي. ويشهد الموسم الجديد إطلاق "وندر جاردن" التي تُعد أكبر "مدينة ملاهٍ متنقلة" على مساحة 1/2 مليون متر مربع، وتضم 4 مناطق مختلفة للألعاب وما يصل إلى أكثر من 85 لعبة جديدة، وفقًا لرئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه تركي آل الشيخ!
الردّ الأوفى على التصرف الأخرق، عديم الإحساس والشّعور والمسؤولية، جاء من الفنان المصري "محمد سلام" الذي أعلن قبل أيام رفضه المشاركة في مسرحية كانت ستعرض في موسم "مهزلة الرياض"، موضحًا أنه لن يستطيع أن يضحك أو يشارك في عرض يدعو للضحك فيما أخوة لنا يستباح كيان الاحتلال دمائهم، وهو رد يشفي الصدور باتجاه الأراجوز ومن معه، وموقفهم الذي لا تصلح له الأوصاف المهذبة.
في الواقع لقد عايشت الأمة العربيّة، أو مرت، بلحظات خيانة كثيرة، لا تحصى، أشهرها على الإطلاق حادثة "أبو رغال"، العربي الوحيد الذي قبل أن يكون دليلًا لجيش إبرهة الحبشي الذي تقدّم من اليمن لتدمير الكعبة الشريفة، ولم يرض أي شخص آخر أن يؤدي هذا الدور على الإطلاق، ولأن الجزاء من جنس العمل، حتى اليوم تذكر الخيانة مقرونة باسمه وينعت كل خائن عربي بأبي رغال، وكان العرب يرجمون قبره بعد الانصراف من شعائر الحج، وقد خلد هذا التصرف القديم الشاعر جرير بقوله: "إذا مات الفرزدق فارجموه.. كما ترمون قبر أبي رغال"، وما أشبه اليوم بالبارحة.