(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
بدايات كل عام جديد تحتمل التفاؤل، وأحيانًا تتطلّب قدرًا من التفاؤل يمنح الإنسان فرصة للخروج من صندوق الرتابة الاعتيادي، ورفع رأسه لحظة كافية ليتصوّر فرصًا ما في أفق قريب.. لكنّ في المملكة العربية السعودية، وبالنسبة إلى العام 2024، وأمام ما يجري في المنطقة وعليها من صراع ممتد بالنار والدم، والذي لا يعلم أحد –يقينًا- مستقبلًا عاديًا خلاله أو بعده، اختار الأمير محمد بن سلمان، والذي دفعت إليه الأقدار إلى كرسي السلطة أو اندفع هو إليها لا فرق الآن، أن يبدأ العام الجديد بخطوة طائشة أخرى.
الحقيقة الوحيدة التي يقطع عليها أي شخص عاقل، عن الميزانية العامة لدولة، أي دولة وفي أي وقت ومع أي مجتمع، أنها الحكم البات على أولويات نظام الحكم، في رؤيته وأسلوبه ونمط تفكيره، انحيازاته وخياراته، وربما هواه أيضًا. وهي انعكاس لكفاءة وحسن تدبير المسؤول عنها، وقدرة الممسكين بزمام السلطة على حسن استخدام الموارد المتاحة وتوجيهها لتحقيق أفضل المستهدفات. الميزانية العامة للمملكة للعام 2024 لا تعكس شيئًا إلا كونها مجموعة كوارث هائلة. المملكة، اليوم، تقف أمام بحر هائج متلاطم الأمواج، والمصيبة أننا نكاد ندخلها بعيون مفتوحة وأقدام تستحث الخطى إلى حيث السقوط الحتمي والمروّع.
إنّ المملكة تتعامل مع مخاطر أقدارها على مستوى أدنى وأخف كثيرًا من قدراتها وإمكاناتها ومواردها، والنتيجة الوحيدة المتاحة هي أنّ ولي العهد بما فعله، بل وبما لم يفعله، يكاد يصل بنا إلى حالٍ أو حافة الانتحار الوطني.
السعودية كونها أغنى دولة عربية وبفوائض مالية هائلة وبتوقعات أسعار نفط فوق المتوسط، بنت موازنتها للعام الجديد -أصلا- على عجز كبير، وفقًا للأرقام الرسمية التي أصدرتها وزارة المالية عقب إقرار الموازنة الجديدة في اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان، وقالت إنّ: " العجز المالي لموازنة العام المالي المقبل سيصل إلى 79 مليار ريال، ويتوقع أن يكون إجمالي الإيرادات 1.172 تريليون ريال، بينما من المنتظر أن يبلغ إجمالي المصروفات 1.251 تريليون ريال".
ما الحل المناسب إذًا مع أوضاع مالية مهتزة وكفاءات غائبة، وعقول لا ترى ولا تفهم؟!.. إنّه الاقتراض مرة أخرى، تمامًا كما سقطت دول عربية كثيرة في شراكه. وقد يجد العقل عذرًا لها من قلة الموارد أو طغيان عنصر السكان على الإمكانات والثروات، لكن في السعودية ما هو مسوّغ القروض، سوى الشهية المفتوحة للمال السهل، والتربح والعمولات، وغيره أكثر ممّا يفتحه المال المتدفق بلا حسيب ولا رقيب.
وزارة المالية تقول إنّ الدين العام للمملكة سيزيد العام المقبل 2024 ليصل إلى نحو 294.1 مليار دولار، بما يعادل 25.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة هائلة عقلا ومنطقًا. إذ ستعاود المملكة الاقتراض من أسواق المال العالمية، بعد أن سجل الدين العام خلال 2023 نحو 273 مليار دولار بما يعادل 24.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
مع الوضع في الحسبان أن أسعار النفط ليست حجة هذه المرة، كما كانت في السبع العجاف من 2015 إلى أوائل 2022، ، بنك "جيه بي مورغان" مثلًا يتوقّع أن تتراوح أسعار "برنت" بين 90 دولارًا و110 دولارات في العام المقبل، والوصول لمستويات أعلى في العام 2025، بفعل الطلب العالمي المتزايد، والاحتياج الفائق للذهب الأسود للاقتصاديات الكبرى في الصين والهند، وعدم وجود إمكانات عالمية لإضافة موارد جديدة تغطي موجة صعود الطلب القادم.
وفي سبيل فهم ما جرى، فإننا ابتداءً مطالبون ألا نردّ الأمر إلى الصدف، لأنّ المنطق وحقائق الأشياء تفرض على العقل البشري العادي حين تتكرر الظواهر، أن ما في الأمر أكثر من مجرد الصدفة، لم تكن خطة أو برنامج "التحول الوطني 2020" إلا شاهدًا على فشل عادي مستمر ودائب، "رؤية المملكة 2030" بمستهدفاتها الحالية ومخاصمتها لكل واقع معاش أو منطق بسيط ستسقط هي الأخرى. ذلك أنّ المحاسبة لم تقع وقت وجوبها في 2022، مشروع "نيوم" هائل التكاليف، بمكانه السيء وبالقرب من برميل بارود المنطقة العربية، وفي ظروف الحرب الحالية، سيكون هو المثال المروّع عن نظام بدأ إصلاحه مقلوبًا، لم يبدأ من المواطن/ الإنسان، لكنه بدأ من "إنترنت الأشياء" و"المدن الغاطسة والعائمة" و"الحوسبة السحابية"، وهذه كلها مفردات أجنبية وغريبة، لا ترى مجتمعها ولا تراعيه، لذلك هو سيراها دائمًا نبتًا كالحًا وشاذًا، سيكره هذا الإصلاح ولن ينخرط فيه، ولا يتحمّل أعباءه وتبعاته، وتلك هي وصفة الفشل الكامل وشروطها التامة.