(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
من الحقائق التاريخية الساطعة القاطعة التي لا تحتاج حضورًا ذهنيًا ولا ألعابًا عقلية ملغزة، هو أن مستقبل دولة ما يرسمه حاضرها ويحملها إليه واقعها وخياراتها هي، وأن الحروب مثلًا – أقصى حدّ لفعل للتدمير- لا تهزم شعبًا، ولا تستطيع أن تمحو فكرة الاستقلال.. لكن على العكس تمامًا؛ فإنّ عوامل الضعف الداخلية وحدها قادرة على الوصول ببلد إلى مرحلة أسوأ من الهزيمة، وإلى مأساة أصعب وأكثر ترويعًا من الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، وأنه حين تفقد دولة –أي دولة- قدراتها على التعبير عن مصالح الأغلبية من أبنائها، ويقودها الغباء –الغباء الخام الكامل العنيد- وحده، فهي مقبلة على مصير وحيد محتوم، وهو الانهيار الذاتي الشامل.
دولة يوغوسلافيا السابقة ليست إلا مثالًا واحدًأ قريبًأ، يلخّص درسًا تاريخيًا بليغًا متجددًا على نتيجة حكم "الفرد" وتداعياتها وآثارها، وهي من جانب آخر تمثل للأجيال الأكبر سنًا واحدة من أكثر الكوابيس المؤرقة التي مرّ بها الجميع في مرحلة التسعينيات من القرن الفائت، وما تزال قادرة على خلق القلق والذعر، خصوصًا في واحدة من قمم نتائجها الظاهرة لنا حينذاك، حرب البوسنة، بكل ما كان فيها من ألم وصدمة وعجز جماعي مخيف.
لم تنهر يوغوسلافيا فجأة في أوائل التسعينيات؛ بل وصلت إلى هذه المرحلة تدريجيًا وببطء خلال 10 سنوات، بعد غياب الرئيس "جوزيف بروز تيتو"، في العام 1980، مات الفرد البطل الأوحد، وترك خلفه الفراغ والصراعات والفوضى التي كبرت وترعرت على الأحقاد المدفونة والثارات المكتومة بين "أمراء" الطوائف، وتحولت الدولة الشيوعية إلى برميل بارود جاهز ومستعد، ولم يكن ينتظر على أي حال صاعق الانفجار، لتلتهم النيران الجميع وتطيح بكل آمال الباحثين الواهمين عن سراب..
فما أعمق الشبه، اليوم، بين الدولة التي نشأت تلبية لرغبة بريطانية عقب الحرب العالمية الأولى، مثل "مملكة يوغوسلافيا"، وبين السعودية، ثم بين فكرة الحاكم الفرد في الحالين.. بلا دستور ولا قواعد حكم حقيقية، ثم باختفاء قرارها وغموضه خلف أسوار قصر اليمامة، ومخاصمة مصالح الأغلبية الواضحة ومبادئهم ومنظومتم القيمية والدينية.
وزير التجارة، "ماجد القصبي" اختار أن ينكأ الجروح القديمة كلها مرة واحدة، وفي ظهوره بمنتدى "دافوس" العالمي كان بائسًا فقيرًا لدرجة تبعث على الشفقة والحزن ممّا آل إليه حال المملكة. إذا كان هذا هو صوت المملكة الرفيع وصورتها الجذابة، في مؤتمر تصنع فيه الأفكار وتصاغ فيه السياسات العامة وتطرح للنقاش، فعلى أي صورة إذا هي حقيقة وضعنا المزري في المستويات الأقل من ذلك!
"القصبي" كان يوجز "خيار" المملكة لمستقبلها، وهو خيار ضبابي غير معروف، يأخذ الموقف وعكسه في اللحظة ذاتها، لا يعرف أين يقف، ولا يعرف إلى أين هو ذاهب، ثم هو يقع في مفاجآت متتالية، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، هذا هو تلخيص الموقف الرسمي السعودي من قضيتها الأولى والأخيرة، ماذا نريد من المستقبل، وعلى أي شكل يتصوّره صاحب القرار في المملكة، ولي العهد محمد بن سلمان بالضبط.
المملكة تقف أمام خيار الانضمام إلى مجموعة "بريكس"، في شهر كانون الثاني/ يناير الحالي، كما سبق وأعلنت ترحيبها بذلك في أغسطس/ آب الماضي، ثم اتخذت قرارًا مفاجئًا ومعاكسًا بالانضمام لمشروع "ممر" الهندي/ الأوروبي تحت الرعاية الأميركية، في قمة "G-20" التي عقدت في نيودلهي الشهر الذي تلاه أيلول/ سبتمبر، واليوم لا نعرف على أي صورة سيكون المستقبل السعودي، هل الانحياز إلى عالم الصين متعدّد الأقطاب الجديد، أم الاستمرار في عصر السيطرة الأميركية الذي يوشك على الرحيل؟
لا أحد يملك جوابًا قطعيًا في هذا الأمر.
رئيس وفد المملكة، في مؤتمر دافوس، وزير الخارجية "فيصل بن فرحان"، هو الآخر اختار مشاركة "مميزة" في سياق التيه الحاكم، الأمير الأنيق أطلق تصريحاته كالصواريخ في كل اتجاه ممكن، عن الاقتصاد السعودي الأكثر نموًا في العالم، وعن العصر الجديد الذي تقود فيه المملكة الاقتصاد العربي عبر التكامل مع الأردن والعراق، وكيف ستضيف هذه المشاركة لـ "رؤية 2030"، وكأن المملكة قد طوت بنجاح العصور واستنفذت كل مراحل التطور الصناعي والتقني، ولم يبق أمامها من إنجازات إلا تقديم يد العون للدول العربية المحيطة..!
ربما لا يعلم "بن فرحان"، أو لم يخبره أحد، بأن المملكة كانت تتربّع على عرش الاقتصاد الأسرع نموًا في العالم، وحققت المملكة أول فائض في الموازنة خلال عقد كامل، لكن ليس في 2023، بل في 2022، وأن العام المالي الماضي 2023 شهد معدل متواضع لنمو الناتج المحلي الإجمالي بلغ 0.03%، مع تسجيل أول انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 4.5%، خلال الربع الثالث من 2023 على أساس سنوي.
إذا كان وزير الخارجية يدري واختار الكذب فتلك مصيبة، إما إن كان لا يعلم من الأصل أن المملكة –وفي اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان- قد قررت بالفعل اللجوء إلى الاقتراض في العام الحالي 2024، لاستكمال مشروعاتها الجهنمية، فالمصيبة أعظم...!