(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
في شهر رمضان الكريم، والوقت فيه متسع ورحيب، يمنح الفرصة للعقل محاولة أن يناقش ويفكر، لعله يفهم سر أسرار الأزمات السعودية المتتالية. وهي أزمة نشأت من تراكمات أضيف بعضها على بعض؛ ثم جاء فوقها تفاعلاتها وتداعياتها، لتنتج مشهدًا أشبه بمسرح تدبّ عليه الفوضى منفلتة ووحيدة، حاكمة على ظواهر الأمور، نافذة إلى بواطنها. وباتت هي المحرك الوحيد للأحداث الغريبة التي تجري إثر بعضها البعض، وكلها مثل كتل الصخر في الطريق يصعب التعامل معها مع تجنّب الاصطدام بها.
في البداية؛ كل شيء فلسفة، للقانون مثلًا فلسفة تحكم دوره ونطاقه وتوقيته، وهي تحاول إعطاء القانون سلطة يتكامل بها ولا ينقض غيرها من قوانين، بمعنى أن أصعب قرار بالنسبة إلى حاكم هو إقرار قانون. فهو بحدّ ذاته عملية إدارية طويلة ومعقدة، ولا بدّ أن تتم على أيدي متخصخصين وفقهاء قانون، يعرفون مبدئيًا أن كل لفظ وحرف فيما يجري مناقشته قنبلة؛ إذا لم يُحسن استخدامها ووضعها في سياقها ستنفجر في وجهه، وستؤدي لعواقب أقلها التشكيك في سلطة الدولة أو في كفاءتها، هذا في أقل الأحوال.
لقد أصدرت المملكة قانونًا جديدًا، مع نهاية شهر رمضان المبارك، يقضي بإعفاء المواطن من نصف مخالفات السيارات (50%). وهذا قرار جيد ويستحثّ الغالبية على الإفادة منه والدفع، بمعنى أنه يحمل المعنى الإيجابي للقانون، لكن جاءت الفقرة الثانية منه كقنبلة مروّعة، ونصها: "تجميد حسابات من لا يدفع مخالفاته"، وهي مخيفة جدًا، سواء للمواطن العادي أم لأي شخص أو شركة تفكر في القدوم للاستثمار في المملكة العربية السعودية، والتي تقول ليلًا ونهارًا إنّها تحاول جذب الاستثمارات الأجنبية إليها.
بأربع كلمات فقط لا غير نسفت المملكة كل حديثها وإعلاناتها وجهودها لجذب الاستثمارات الأجنبية، في أي دستور وأي دولة يعدّ للمال الخاص والملكيات الخاصة كذلك حرمة، لا يجوز المساس بها سوى عن طريق القضاء، وبطرائق معينة وفي حالات قليلة مقننة. أما فكرة تجميد الحسابات؛ فيجب ألّا تتطبّق إلّا بقرار محكمة. هذه الرسالة التي جاءت في قانون يخصّ المخالفات المرورية مخيفة ومرعبة لأي كيان يفكر في الدخول إلى السوق السعودية.. فكيف تصدر المملكة قوانينها وقراراتها، وما هي حدود سلطة الدولة على الاسثمارات، خصوصًا وأن المملكة ليس لها حتى اليوم دستور مكتوب كأي دولة طبيعية؟!
كان طبيعيًا ومنطقيًا ومتوافقًا مع حقيقة أن رأس المال جبان، ربما يتحرك بشهوة الربح الكبير، لكن تردعه أكثر المخاوف على الاستقرار، ويفر هاربًا بعيدًا عن العشوائية. إنّ المملكة فشلت في مستهدفات الاستثمار الأجنبي، خلال العام الحالي، فلم يحقق هدف الـ 100 مليار دولار المعلن من مجلس الوزراء السعودي، وبدأت بعض المشاريع الجارية في تأخير جداول العمل، وأخرى قد أجلت دخول السوق حتى تتضح الظروف والأحوال. كان منطقيًا جدًا أن يطير دخان الوهم أمام حقائق الواقع الذي يتخبّط ويتعثر، ويرسل من الرسائل القاطعة عكس ما يقوله في الإعلام، وأن تذهب كل جهود الترويج إلى النسيان.
لم يكن غريبًا، أيضًا، أن يخرج وزير المالية محمد الجدعان ليقول إن هناك فجوة بين الإيرادات والمصروفات، في موازنة المملكة لعام 2024، وأنها ستؤدي إلى إلغاء بعض المشروعات وتأخير الجداول الزمنية لمشروعات أخرى. فالاستثمارات الأجنبية التي تعوّل عليها المملكة للدخول إلى المشاريع الضخمة كنيوم والقدية لم تأت، وضخامة تكاليف هذه المشاريع "الخيالية" –في أفضل لفظ وأكثره تهذيبًا- تجعل من العسير إتمامها في مواعيدها. بالتزامن مع ذلك؛ هناك شكوك واسعة حول تحقيق مستهدفات "رؤية المملكة 2030"، والتي يراهن عليها ويرعاها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولا يبدو في الأفق أن الأمور سائرة إلى ما كان مخططًا لها.
في ظل أزمة التمويل؛ طلبت الحكومة السعودية رسميًا من الكويت قرضًا في حدود 16 مليار دولار، يضاف إلى تمويل إضافي بقيمة 5.4 مليارات دولار من صندوق الاستثمارات العامة، ومليار دولار أخرى من الموازنة الحكومية المختلة أصلا، لاستكمال مشروع "نيوم"، والذي نعرف جميعًا أن تكاليفه المقدرة 500 مليار دولار. لكن يبدو أنه لا أحد يعلم من أين ستأتي كل تلك الأموال، مع إحجام رؤوس الأموال الأجنبية التي كان المشروع بالأصل يستهدف جذبها، وكيف يخرج هذا المشروع العملاق للنور إذًا، مع تعثره المتتالي وتأثيره الذي يجبر أغنى دولة عربية على الاقتراض سنويًا لاستكماله، هل تتم التنمية المنشودة بالقروض، أم إنها مجرد حلم رجل وحيد، وكلما اقتربنا منه اكتشفنا أننا أمام سراب!