(فؤاد السحيباني / راصد الخليج)
القيمة السامية والنبيلة لأي عمل على المستوى الوطني، مشروط انطلاقه من حاجة وطنية واستهداف ضرورة وطنية، ضمن سياق شامل يعني أو يريد أن يحقق المصلحة العامة. وكل ما هو خلاف ذلك؛ لن يحمل سوى احتمالات الصدفة العشوائية، وهي جدّ مخيفة في عالم اليوم المتقلّب، وأمام نيران معارك مشتعلة في كل مكان، وصناديق بارود محشوة وجاهزة في مناطق أخرى تنتظر أول شرارة للانفجار الواسع.
رعاية الفوضى والعشوائية والترفيه حين تصبح رسميّة، ترسم مستقبل مأساة يكبر مع الأيام ولا يصغر. هي تهدم الثوابت أولًا، ثم تفقد القيم معناها، وأخيرًا تخلق بيئة فاسدة مثالية، لا تربّي الفاسدين فقط، لكنها بحكم وجود سلطة لا تعرف العدالة ومجتمع يتشقق بالشكوك والقلق وسياق لا يتمتع بالثقة المبدئية، فإنّ أغلب الناس سيتجهون تلقائيًا إلى الفساد لمجاراة مجتمعهم الجديد والتأقلم مع أفكار عالم يتغير ويلمع ويغريهم بمذاق التجربة.
اليوم؛ صدر الحكم شاملًا باتًا على ما عرفت بـ "رؤية 2030"، ليس لأنّها خاصمت الفروض أعلاه، ولا لأنّها وضعت في مكاتب استشارات بنيويورك ولندن لا تعرف شكل البلد الذي ستطبق فيه، ولا لأنّها رفعت سقوف الأماني إلى سماء وهم عبر مستهدفات خيالية، لم يكن يمكن الذهاب إليها سوى مع مجتمع قد قطع شوطًا بعيدًا في تطوره الاجتماعي والاقتصادي، ويتمتع –أولًا- بدرجة كبيرة من الحرية تتيح بدورها لأفراد هذا المجتمع أن يصبحوا مشاركين ومساهمين على طول الطريق ومتحمّلين بإرادتهم لصعوبته وتحولاته.
في شاهد وحيد، تأتي قصة التصنيع العسكري مع المملكة بائسة، عاجزة وعمياء، من المنطقي أن أسهل وأبسط أهداف "رؤية 2030" كان التحوّل جزئيًا إلى تصنيع السلاح محليًا، عوضًا عن فاتورة سنوية مرهقة، أضافت إليها تجربة الحرب في اليمن احتمالات "الحظر والتقييد" من الدول الموردة للأسلحة والذخائر، وتوطين الصناعات العسكرية –بشكل عام- يحقق جملة أهداف فوق عوائدها المادية الضخمة والأكيدة.
فهي خطوة أولى ضمن إنشاء قطاع صناعة وطني قوي، وفكًا لتبعية القرار السياسي جزئيًا، والأهم أن هذا القطاع يستوعب أعدادًا هائلة من المهندسين والمطورين وصانعي البرمجيات، إضافة للعمالة الأخرى. هذا القطاع وحده سيوفر للمجتمع نقلة كبيرة في ما يتعلق بالدخول من البوابة الملكية لعصر الذكاء الاصطناعي، وتحويل قنبلة تسمى "البطالة" إلى فرص ذهبية باستيعاب الشباب المؤهل في مختلف درجات وتخصصات هذه الصناعة الإستراتيجية.
لكن الذي يخبرنا به الواقع عن المملكة هو أنها "تنسى" ماذا كانت تريد، أو ماذا كانت تفعل!
بعد 6 سنوات من وضع "رؤية 2030" تذكر مسؤول ما، فجأة، أن التصنيع العسكري كان من أولويات الرؤية، ففي نيسان/ أبريل 2021 أقرّ مجلس الوزراء إستراتيجية الصناعات العسكرية، ثم في شباط/ فبراير 2022، أطلق المجلس إستراتيجية القوى البشرية في قطاع الصناعات العسكرية والدفاعية في المملكة، وأعقبه تأسيس الأكاديمية الوطنية للصناعات العسكرية، بعد 13 شهرًا كاملة، في آيار/ مايو 2022، اكتشف المسؤول أن هذا القطاع يلزمه كوادر وطنية على درجة عالية من التعليم والتدريب والكفاءة.
المضحك المبكي في قصة المملكة مع أحد أهم بنود مشروع التطوير هو النهايات غير السعيدة لبدايات كانت تحمل وعودًا مبشّرة. والأرقام وحدها لا تكذب، ما تزال أرقام ميزانية مشتريات الأسلحة السعودية منفلتة وثقيلة، ومن دون داعٍ، أحدث البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "Sipri" السويدي، كشفت عن ارتفاع نفقات المملكة العسكرية بشكل كبير عن العام الماضي، ووصولها إلى 75.8 مليار دولار خلال العام 2023، لتحتل المركز الأول في منطقة الشرق الأوسط في الإنفاق العسكري، وبعدها بكثير جدًا يحلّ كيان الاحتلال في المركز الثاني بـ 27.5 مليار دولار، بينما لا تتجاوز فاتورة الدفاع 10.3% في إيران.
في قائمة أضخم المنفقين على التسلح في العام 2023، تأتي المملكة خامسة في الترتيب بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند. وبشكل عام تنفق هذه الدول الخمس مجتمعة 61% من الإنفاق العسكري العالمي، هذا مع الوضع في الحسبان أن المملكة لا تخوض حروبًا حاليًا، وملف حرب اليمن برمته قد جُمّد، بانتظار إعلان كلمة النهاية، بعد أن فشلت عاصفة الحزم تمامًا.
هناك نقطة أخيرة وفارقة في قصة فاتورة التسلح، وهي ما يُعرف بـ "العبء العسكري" وهو باختصار النسبة المئوية للإنفاق العسكري في دولة ما من الناتج المحلي الإجمالي. وهو مقياس للتكلفة الاقتصادية النسبية للدفاع. في هذا المؤشر شديد الدلالة والخطورة حققت المملكة زيادة بنسبة 0.7% عن العام الذي سبقه، ليصل العبء العسكري في المملكة إلى 7.1% من ناتجها المحلي الإجمالي في العام 2023، والأكثر غرابة هو أن الإنفاق العسكري السعودي يبلغ 24% من الإنفاق العام، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى أوكرانيا، التي تمزقها الحرب وعمدت في مواجهتها إلى حشد كل يمكنها للتسلح والدفاع