(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يجزم أحدُ أكبر وأشهر أدباء فرنسا، "أناتول فرانس"، أنّ "الغباء أخطر كثيرًا من الشرّ، فالشرّ قد يأخذ هدنة من حين لآخر، أمّا الغباء فيستمر"، ما الذي يفعله الغباء حين يسيطر وينفذ ويقرر ويحكم، إنه سيعمي حاسّة الرؤية عند الجالس على العرش، وسيمنحه العمى بدوره تعاليًا عن التفاعل مع الواقع وأزماته وفرصه وتحدياته، وسينتهي به الحال غارقًا في شطط الطيران مع خياله "واقعه المتخيل"، في تلك اللحظة يأتي الإلهام بالسراب وكأنه الحقيقة الوحيدة المطلوب من الجميع رؤيتها وتصديقها والتماهي معها.
لم نعد في المملكة نمتلك رفاهية إعادة طرح إنشاء شركة سيارات وطنية، هذا الأمر كان يجب أن يتم منذ 40 عامًا على الأقل، إنشاء قطاع سيارات محلي تمامًا بالبدء في شراكات مع مصانع عالمية، كان واجبًا منذ مدّة طويلة، وكلّما مرّت السنوات لن نحصد من التأجيل سوى اجترار المرارات القديمة ونحن نعاين الخسائر الطازجة، في كل عام حين نشاهد نمو سوق السيارات بالمملكة.
خلال العام الماضي 2023، واصلت واردات المملكة من السيارات الارتفاع للعام الثامن على التوالي، ووفقًا لأرقام البنك المركزي السعودي فقد وصلت إلى 11.4 مليار دولار مقارنة بـ 9.5 مليار دولار في 2022، و7.8 مليار دولار في 2021، و7 مليارات دولار في 2020، هذه الأرقام تعكس بالطبع مدى نمو هذا السوق الثابت والسريع، بالإضافة إلى أن خطط تسريع المشروعات العمرانية الجديدة ستضيف المزيد من الفرص الواعدة لقطاع السيارات.. هنا تبدأ المفارقة المضحكة المبكية "رؤية 2030" أو الخطة المشؤومة كما يُطلق عليها، اختارت أن تبدأ السعودية تعلم القيادة عبر مكوك فضاء، وليس عبر دراجة أو سيارة، في 2023، أعلنت شركة "لوسد" الأميركية افتتاح مصنع سيارات ذكية في جدّة، مع وضع عقود تضمن مشتريات المصنع بالكامل، إضافة إلى أن صندوق الثروة السيادي السعودي هو أكبر مساهم في شركة "لوسِد"، واختار بـ "ذكاء يُحسد عليه" أن يقفز إلى حلبة منافسة صناعة السيارات الكهربائية، التي تهيمن عليها دولًا كبرى مثل الصين والولايات المتحدة. وقبل "لوسد"، فإنّ صندوق الثروة السيادي دشن في 2022 أول علامة تجارية محلية للسيارات الكهربائية، باسم "سير"، وأعلن عن استثمارات بقيمة 6 مليارات دولار في مجمع لألواح الصلب، ومصنع آخر لمعادن بطاريات السيارات الكهربائية، لكن هذا هو الحلم الذي تعد به رؤية 2030، فماذا عن الأرقام الرسمية لسوق السيارات في المملكة؟
تتصدّر السّوق السّعودية الشرق الأوسط فيما يتعلّق بمبيعات السيارات الجديدة، سواء المخصصة للسياحة أم للنقل، في عام 2022 فقط، استوردت السعودية 519 ألف سيارة و97 ألف مركبة تجارية، بفارق مذهل عن أيّ دولة أخرى في المنطقة. الإمارات التي حلّت في المركز الثاني اكتفت بـ 171.4 ألف سيارة و36.1 ألف مركبة تجارية، وبقية الأسواق العربية تبتعد كثيرًا جدًا عن مستويات المبيعات في البلدين بشكل صارخ. واحتل العملاق الياباني تويوتا قائمة العلامات التجارية الأكثر مبيعًا في المملكة، ثم هيونداي فـ نيسان وكيا وإيسوزو، وضمت قائمة أعلى 10 علامات تجارية مبيعًا شركتين صينيتين للمرة الأولى، هما شانجان وجيلي، ولكي تكتمل الصورة وتتضح؛ فإنّ أهمّ دولتين منتجتين للسيارات والشاحنات بالشرق الأوسط هما تركيا حيث قدر إنتاجها لعام 2022 بأكثر من 1.35 مليون وحدة، وتليها إيران بـ 1.06 مليون وحدة.
ما الذي يمكن أن يقدّمه إنشاء قطاع صناعي وطني في مجال السيارات، قد تطول النتائج والحسابات، فهذا أمر مفروغ منه، قطاع صناعي يعني فرص عمل مباشر ووفير، يعني وقف نزيف الاستيراد السفيه، يعني مشروعًا وطنيًا يتمحور حول الذات وإشباعًا للهوية والإنجاز، يعني أن هذا المجتمع قرر أن يبدأ طور تحوّلٍ كيفيّ ونوعيّ من مستهلكٍ إلى مصنّع، كثيرة جدًا هي الرؤى عن ما ستحدثه ثورة إنتاج "أول سيارة سعودية حقيقية" ليست مجمّعة ولا مستوردة، لكن هل يتخلّى الغباء عن إصراره؟!