في 2025/08/04
سلمى حداد - الخليج أونلاين
منذ إطلاق رؤية السعودية 2030، شهدت المملكة تحولات عميقة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جعلت من الثقافة محركاً فعّالاً للنمو والتنويع الاقتصادي.
وبعد عقود من الغياب الاستراتيجي والتهميش المؤسسي، انتقل القطاع الثقافي من الهامش إلى صميم السياسات العامة.
وفي غضون سبع سنوات فقط على تأسيس وزارة الثقافة، لم يقتصر التحول على الأنشطة والفعاليات، بل امتد إلى بنية الاقتصاد الإبداعي، وتوسيع سوق العمل الثقافي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، ورفع مساهمة الثقافة في الناتج المحلي، وهي عناصر باتت ملموسة بالأرقام، ومؤثرة في توجهات السوق السعودي.
مساهمة اقتصادية
وفي سبتمبر الماضي، كشف تقرير سعودي أن القطاع الثقافي أسهم في نمو اقتصاد المملكة بنسبة تجاوزت 20% خلال العام 2023.
وقال التقرير، الصادر عن وزارة الثقافة السعودية، إن مساهمة القطاع الثقافي سجلت 35 مليار ريال (9.33 مليارات دولار)، أي ما يعادل 1.49% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وبما يساوي 20% من نسبة نمو اقتصاد المملكة بشكل عام.
وأظهر التقرير زيادة ملحوظة في الإنتاج الثقافي بمختلف المجالات، وخصوصاً النشر الأدبي والإنتاج المسرحي والسينمائي والعروض الأدائية؛ ما يعطي مؤشراً على فاعلية الدعم والتمكين للقطاع الثقافي في المملكة.
وأوضح أن وزارة الثقافة استطاعت تحقيق مستهدفاتها في 5 مؤشرات و9 مبادرات، فيما يتعلق بالمؤشرات والمبادرات المرتبطة برؤية 2030.
كما أن الصناعات الثقافية والإبداعية والتي تشمل قطاعات متنوعة مثل الفنون، والتصميم، والسينما، والمسرح، والنشر، والحرف اليدوية، والموسيقى، أصبحت محركاً اقتصادياً حيوياً يخلق فرص عمل جديدة ويجذب الاستثمارات، وفق التقرير نفسه.
وفي هذا السياق، قال وزير الثقافة، الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، في مقابلة مع صحيفة "الاقتصادية" المحلية، في يونيو الماضي، إن مساهمة القطاع الثقافي في الناتج المحلي ارتفعت إلى 1.49% مقارنة بـ0.91% سابقاً، مؤكداً تطلع الوزارة لرفعها إلى 3% بحلول 2030. كما أشار إلى أن 92% من السعوديين باتوا يرون الثقافة مهمة، بعد أن كانت النسبة 70%.
وأوضح الوزير أن الصندوق الثقافي قدّم دعماً بقيمة 377 مليون ريال (100.5 مليون دولار أمريكي) لأكثر من 120 مشروعاً في 7 مدن، بالإضافة إلى استفادة 1200 مبدع ورائد أعمال من خدمات تطويرية، شملت قطاعات متنوعة مثل الموسيقى، والتراث، والأزياء.
وأكد الأمير بدر إدراج 360 مهنة ثقافية في التصنيف المهني السعودي، ما يتيح للعاملين الحصول على دعم حكومي أكبر، مع رفع نسبة الدعم المالي للوظائف الثقافية إلى 50%.
وتوقع نمو عدد وظائف القطاع إلى أكثر من 346 ألف وظيفة بحلول 2030.
مبادرات وفعاليات دولية
وفي إطار المساهمة الاقتصادية لقطاع الثقافة، أطلقت وزارة الثقافة السعودية مبادرات عدة لدعم رواد الأعمال منها برنامج الدعم المالي للأفلام، برنامج "100 براند سعودي" لدعم قطاع الأزياء، وحاضنة المسرح والفنون الأدائية، وحاضنة فنون الطهي.
كما نجحت السعودية في تعزيز حضورها العالمي ثقافياً عبر فعاليات عديدة، من أبرزها مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ونور الرياض (أكبر احتفال بالفنون الضوئية)، وبينالي الفنون الإسلامية الذي استقطب في العام 2023 أكثر من 600 ألف زائر.
وفازت منطقة عسير بلقب "منطقة فنون الطهي العالمية"، وسُجّل "عروق بني معارض" كأول موقع تراث طبيعي سعودي ضمن قائمة اليونسكو، وفق صحيفة "الاقتصادية" السعودية.
الدرعية والعلا
وتبرز مشاريع الدرعية والعُلا كنموذجين ملهمين على تسخير الثقافة والتراث في تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز مكانة السعودية كوجهة عالمية للإبداع والهوية الحضارية.
ففي الدرعية، مهد تأسيس الدولة السعودية، خصص أكثر من 50 مليار ريال (نحو 13.3 مليار دولار) لتحويل المنطقة إلى وجهة ثقافية وسياحية عالمية، من خلال إعادة إحياء مواقع تراثية مثل حي الطريف المدرج على قائمة اليونسكو، وإنشاء متاحف ومراكز ثقافية، واستضافة فعاليات دولية كبرى.
ومن المتوقع أن يستقطب المشروع أكثر من 27 مليون زائر سنوياً بحلول 2030، إلى جانب مساهمته في دعم قطاعي السياحة والضيافة وتوفير آلاف فرص العمل.
أما في العُلا، التي تحتضن مواقع تاريخية تعود إلى آلاف السنين، فقد تم إطلاق خطة تطوير شاملة لتحويل المدينة إلى مركز ثقافي وسياحي دولي. ويتضمن المشروع فعاليات ثقافية كبرى مثل مهرجان شتاء طنطورة، وإنشاء معالم فنية مثل مسرح مرايا، ما يعزز من جاذبية المنطقة على الصعيد العالمي.
وتشير التقديرات إلى أن المشروع سيساهم بأكثر من ملياري دولار سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، مع توفير فرص عمل واسعة وتعزيز السياحة المستدامة.
وتجسد هذه المشاريع رؤية السعودية 2030 في تحويل الثقافة إلى رافعة اقتصادية حقيقية، واستثمار الموروث الحضاري في بناء اقتصاد متنوع قائم على المعرفة والإبداع.
أداة اقتصادية استراتيجية
وفي هذا الإطار، يرى المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أن التحولات الثقافية التي تعيشها المملكة لم تعد مجرد مظاهر اجتماعية أو ترف ناعم، بل تحوّلت إلى "أداة اقتصادية استراتيجية ضمن أدوات التنويع التي تستند إليها رؤية 2030"، مشيراً إلى أن "الاستثمار في الثقافة بات يُعامل كقطاع إنتاجي حيوي، إلى جانب الصناعة والتقنية والسياحة".
وقال أبو قمر، في حديث لـ"الخليج أونلاين": "أثبتت الصناعات الثقافية والإبداعية قدرتها على خلق القيمة الاقتصادية الملموسة من خلال سلاسل إنتاج تبدأ من الفكرة وتنتهي بمنتج قابل للتصدير أو الاستهلاك المحلي، سواء في الفنون أو التصميم أو النشر أو الحرف أو الأزياء، وغيرها".
ولفت إلى أن ما تحقق خلال السنوات القليلة الماضية يعكس "تحولاً مؤسسياً حقيقياً في النظرة الرسمية للثقافة"، من قطاع هامشي محدود الأثر إلى "رافعة اقتصادية واجتماعية تساهم في بناء مجتمع أكثر تنوعاً وقدرة على الإبداع".
وأضاف أبو قمر أن "المشاريع الكبرى، مثل العُلا والدرعية، تمثل تطبيقات عملية لكيفية توظيف الثقافة والتراث في تحفيز الاقتصاد المحلي، وجذب الاستثمارات، وتوليد الوظائف، بل وتسويق المملكة عالمياً من بوابة ناعمة لكن ذات تأثير اقتصادي صلب".
وشدد على أن أبرز ما يميز التجربة السعودية في هذا الجانب هو "الدمج بين الهوية والتراث من جهة، والحداثة والتقنية من جهة أخرى، بما يخلق نموذجاً فريداً لاقتصاد ثقافي قابل للاستدامة والنمو"، معتبراً أن هذا المسار يتماشى مع الاتجاهات العالمية التي باتت ترى في الإبداع قوة اقتصادية لا تقل أهمية عن الطاقة أو الصناعة.