في انتفاضةِ التّسعينات (أبريل ١٩٩٥م)، حاصرت القوّاتُ منزل المرحوم الشّيخ عبد الأمير الجمري، وفرضت عليه إقامة جبريّة انتهت بإعادة اعتقاله. بعد الإعلان عن “الميثاق” وقبله، استعاد الشّيخ الجمري موقعه الرمزي بين الناس، وانطلاقاً من منبر جامع الإمام الصّادق بالدّراز. مع عودة المنفيين في العام ٢٠٠١م، رجعَ الشّيخ عيسى قاسم إلى البلاد، واستلمَ مجدّداً جامع الدّراز الذي تركه للشّيخ علي سلمان قبل مغادرته البلاد لإكمال دراسته الدّينيّة في قم.
بدأ الشيخ قاسم إقامة صلاة الجمعة، وتحوّلت خطبها إلى خطابٍ مركزيّ اشتغل في أمور الدّين والمجتمع والسّياسة، وشكّلت مفرداته استعادةً للحيويّة المؤثرة للتّيار الدّيني في البلاد، إضافة إلى كونه أنجز ترسيخاً للشّعبيّة الغالبة لهذا التّيار، وعلى النّحو الذي برز من السّجالات الحادة التي أثارها، وفي أكثر من موضوع، مثل قضيّة العلمانيّة والعلاقة بعلماء الدّين و(الفقهاء)، الشّباب والحداثة، قانون الأحوال الشّخصيّة، المشاركة والمقاطعة في الانتخابات، وصولاً إلى الإنشغال السّياسيّ المكثّف في فترة ما بعد ثورة ١٤ فبراير، والتي شكّلت إضافةً صارمةً في خطاب الشّيخ السّياسي، بما مثّله من رافعةٍ لمطالب النّاس واستنكاراً لتعدّيّات النّظام ومشاريعه المضادة. في السنوات الثلاث الأولى للثّورة؛ هوجم الشّيخ قاسم رسميّاً، وعلى نحوٍ غير مسبوق. هُدِّد بشكلٍ غير مباشر بمنعه من الخطابة تحت حجّة الحديث في السّياسة، وكانت رسالة وزير العدل الخليفي خالد علي الخليفة في أغسطس ٢٠١١م، البداية الرسميّة لهذه الحملة، وكانت بمثابة “الضوء الأخضر” للتّصعيد المتتالي ضدّ الشّيخ ومنبره.
استهداف الشّيخ قاسم كان واضحاً للجميع. في ٢٤ أغسطس ٢٠١١م؛ أُقيم تجمّع جماهيري في مأتم السنابس، تحدّث فيه السيد عبد الله الغريفي الذي استهجن الحملة ضد الشّيخ قاسم، ورفضَ الاتّهامات الموجهة ضدّه، وقال إنه “رمز كبير” و”قامة” محليّة وعالميّة. إلاّ أن الحملة لم تتوقف، وكان الواضح أنّ مشروع آل خليفة ماضٍ في التّضييق على المواقع والمراكز والرمزيّات والشّعائر الدّينيّة، وتحت عنوان “فكّ” الارتباط بين السياسة والمنبر الدّيني، و”قطْع” إمدادات المؤسسة الدّينيّة للحراك الشّعبي.
وفي الوقتِ الذي تمدّدت هذه الحملة، وأخذت ضراوتها في الإساءة لشخص الشّيخ قاسم، فإنّ ردود الفعل كانت بطيئة وغير منسجمة، وغلبها الإيقاعُ الخطابيّ، وكأن الأمر “فوق طاقة الرّد”، وكان اللافت أن خطّة الهجوم لم تتوقّف حتّى عندما احتجب الشّيخ قاسم عن منبر جامع الدّراز، وذلك بعد حادثة تعرّضه للإنزلاق ودخوله الممستشفى في ديسمبر ٢٠١٤م، حيث بدأ الشّيخ محمد صنقور باستلام المنبر، إلى أن تمّ منعه حكوميّاً في يونيو ٢٠١٦م في إطار حزمة “الحرب” المعلنة، والتي تمدّدت من الجامع، وعادت إلى شخص الشّيخ قاسم مجدّداً بإسقاط جنسيّته والتّهديد بترحيله قسراً.
تواجِه بلدة الدّراز حصاراً يختلف عن تجارب الحصار العسكريّ التي تعرّضت لها معظم بلدات البحرين خلال سنوات الثورة. القوات المدجّجة التي تحيط بمداخل البلدة، ليست في مهمّة مداهمة عاديّة، أو اقتحام معهود ومتكرّر كلّ يوم وليلة. هناك أمر أخير باقتلاعِ هويّة هذا الوطن وإنجاز التّطبيق “الشّفاف” و”الكامل” لمشروع “الإبادة”. تتحفّز القوّات طيلة الوقت. المعتصمون قالوها كلمةً واضحة للشّيخ: “لن نغادر، وهذه كربلاء وقائدها قدوتنا”. حلفاء النّظام “الكبار” حاضرون في لبِّ المشهد. يُجرون التّعديلات كلّ ساعة، ويُسهمون في أدّق تفاصيل الخطوة المرتقبة التّالية باتّجاه البلدة. جامع الصّادق لازال محتجّاً على النّظام، والمصلّون حوّلوا وجهتهم إلى الباحة المقابِلة لبيت الشّيخ الذي لم يُفصِح بعد عن كلمته “النّارية” الأخيرة. الضّجيج العبثيّ لا يتوقّف من صحف النّظام وطبّالته، والإدانات والاحتجاجات في الدّاخل والخارج حوّلت البحرين من جديدٍ إلى بؤرة الاهتمام الدّولي، فيما يلوح في الأفق شبحُ المجازر التي تفجّرت من “دوّار اللؤلوة” ومحيطها.
هذه ليست المرّة الأولى الذي يكون الغموضُ هو الحدث الأوّل في البحرين. ولكن حصار الدّراز يُحرِّك الحدث لمزيدٍ من الغموض الذي يحتملُ كلّ شيء، ونقيضه: انكسارُ شوكة القوات أمام صمود الدّراز، أو توغّل القوّات باتّجاه منزل الشّيخ وارتكاب الجريمة. تغيير الحلفاءُ للخطّةِ وإلزام النّظام على التّراجع، والاحتماء بالمربع الأوّل، وانتظار استلام أمر العمليات الجديد، أو الذّهاب إلى نهاية الخطّةِ وابتلاع سُمّ الانتحار الجماعي. هو صراعٌ متبلِّد قصْداً بين الإقدام والإحجام. وهذا، بذاته، جزءٌ من خطّة المعركة: استنزافُ الاحتمالاتِ، وتجميدُها في الوقت نفسه. في مثل هذه الحال، وحيث يكون الحصارُ معنويّاً قبل أن يكون عسكريّاً، فإنّ الطريقَ الأمثل هو قلبُ الطّاولة من أعلى، ومن الزّواية التي لا يتوقّعها النظامُ، وحلفاؤه.
نادر المتروك- البحرين اليوم-