في الزّيارةِ الأخيرةِ التي قامَ نفرٌ من رجال الدّين الشّيعة، الموالين لآل خليفة، إلى قصْر الحاكم الخليفيّ حمد عيسى الخليفة، قدّم المعمّمُ محسن العصفور “هديّة” إلى حمد، وهي عبارةٌ عن دعاءٍ منسوبٍ إلى الإمام المهدي، الإمام الثاني عشر من أئمة الشّيعة. كانت الصّورة التي جمعت العصفور مع حمد وهو يُقدِّم تلك الهديّة؛ تُعيد تاريخاً طويلاً من العلاقات المتواطئة، الخدميّة والاستعماليّة، التي جمعت بين رجال الدّين، سييء السمعة، والحكّام الممتلئين بأبشع الأعمال وأشنعها.
مضمونُ الدّعاء المعروف في كتب الأدعية؛ يكشفُ أنّ العصفور لم يكن “خارج الوعي” وهو يؤدّي مهمّته “الكاملة” في الولاء للخليفيين، وفي هذه الظّروف “العصيبة” التي يُنفّذ فيها النّظامُ الخطوات الأخيرة في مشروع اقتلاع السّكان الأصليين، كما يقول الناشطون. ولعلّ تصدُّر العصفور لأكياس الرّمل في “الحرب” الخليفيّة هذه؛ يُنبيء بأنّ الإعداد الخليفيّ للعصفور، والثّلة المحدودة/المنبوذة التي معه؛ لم ينجح في مراميه، لاسيما وأنّ الشّخصيّات “الرّاحلة” التي سبق لآل خليفة الاستفادة منها في تأمينِ “الغطاء الشّرعي” لسياسات آل خليفة، كان تحظى برمزيّةٍ دينيّة واجتماعية ملحوظة، وكان انضمام هذا “الوزن” من الشّخصيّات إلى المحور الخليفيّ بمثابة “مكسبٍ ملموس” أتاح للخليفيين إنجاز أكثر من مهمّة، سواء في السياسة أو في بناء الوجاهة بين قطّاع بين النّاس. بخلاف ذلك، فإنّ حمد، يجد نفسه في أسوأ حالٍ لجهةِ استملاك القوّة الرّمزيّة “المساندة” من رجال الدّين. إنّه منبوذ من النّاس، وفاقد للشّرعيّة، وليس من حوْله من رجال الدّين منْ اسودّت صحائف أعمالهم بين النّاس، وبين العلماء المعتبرين.
من سوء حظ حمد أنّ الوجه الدّيني الذي يستخدمه في الحرب القائمة؛ هو شخص سيء الصّيت، وتاريخُه الشّخصي مليء بالفضائح الأخلاقيّة والتناقض في المواقف، وميزته الوحيدة فقط هو انتماؤه إلى عائلة عريقةٍ من عوائل البحرانيين، وعدا ذلك فإنّ “التعقيدات” النفسيّة التي يُعانيها محسن العصفور أهّلته لأن يكون “النموذج” الأنسب ليُصبح الأداة الفاعلة بيد آل خليفة وهم يخوضون الحرب المفتوحة ضدّ السّكان الأصليين، ليس لكونه جاذباً للأتباع – حيث لا أتّباع له – ولا لأنّه قادرٌ على تسويق مشروع هذه “الحرب” – وهو المعروف بسوء المنطق – وإنّما لأنه مُتاحٌ لأنْ يؤدي كلّ الأدوار والأوامر التي يتسلّمها، وهو لا يجد في داخلِ نفسِه المتورِّمة حرَجاً أو مانعاً أخلاقيّاً في أنْ يبدو في مظهر “الأراجوز” الذي يتلقّى أقبح الأوامر، أو أن يُغيّر من البوصلة بين ساعةٍ وأخرى، تماماً كما حصلَ في شأن منْع فتْح المساجد لإقامة صلوات العيد اليوم الثلثاء، ٥ يوليو، لأنّ حكومة آل خليفة لم تُعلن هذا اليوم عيداً، ولكنه – وبعد الحملة العلمائيّة والقانونيّة والشّعبية – عادَ بعد ساعات قليلة – وقبل بزوغ الشّمس – ليُعلن موقفاً آخر فيه تراجع عن تهديدات منع صلوات العيد، وهو المنع الذي تجاهله أصلاً النّاسُ وعلماء الدين بإعلانهم أماكن إقامة الصّلاة في مختلف مناطق البلاد، وافتراشهم الشّوارع لأداء الصلاة.
إلى ذلك، فوجيء البعض من إعلان العصفور منْع صلوات العيد، ليس لأنها سابقة غير معهودة، ولكن أيضاً لأنّها جاءت من إدارة الأوقاف الجعفريّة التي يُفترض – في الشّكل على الأقل – أنّها تتّبع “الفقه الجعفري”، وتلتزم بتعاليم الفقهاء في شؤون الدّين والعقيدة، إلا أنّ هذه الإدارة، ومن خلال محسن العصفور، تعدّت على “طبيعتها”، وقدّمت إتّباعَ آل خليفة في حربهم المفتوحة على أيّ شيء آخر. وهو ما يُفْصح عن “هويّة” شخص العصفور وأمثاله الذين يمسكون هذه الإدارة التي تحوّلت إلى جهازٍ أمنيّ تديره المخابراتُ الخليفيّة بالكامل، وعلى نحو مكشوفٍ، وخاصة بعد أن توالت مواقف هذه الإدارة في تنفيد مخطّط الخليفيين باستهداف المساجد والحسينيّات والشعائر الدّينيّة، وعلى خطٍّ موازٍ للاستهداف القمعيّ والتّشطيري الذي تتولاّه أجهزة النّظام الأمنيّة والإعلاميّة وفرق القتل الميدانيّ.
من زاويةٍ أخرى، أعطت الورطةُ الجديدة لمحسن العصفور مساحةً أخرى للنّظر إلى حقيقة المشهد الجاري، ولاسيما بعد الهجوم الخليفيّ قبل أسبوعين على الوجود الدّيني والوطنيّ الأصيل في البلاد. فآل خليفة ليسوا في وارد التّراجع عن مشروعٍ جرى التّخطيط له منذ زمنٍ طويل، ومن الوهم الاعتقاد بأنّ “ضغوط” حلفاء النّظام يمكن أن ترفع أيدي آل خليفة عن تمزيق البلد وتخريب تركيبته، كما أنّ الرّهانات ستكون خاسرةً في حال التّعويل على “صحوةٍ” خليفيّة تجعلهم يُعيدون النّظر في طبيعتهم الإجراميّة، والكفّ عن مشروع الإقتلاع. ومن المفيد النّظر إلى “إيغال” نفرٍ من رجال الدّين الموالين للخليفيين في خصومتهم لـ”لذاتهم”، ومحاربتهم للوجود الأصيل للسّكان؛ باعتباره دليلاً مكمِّلاً على أنّ الخليفيين خرجوا – كليّةً – من طور “الخصومة”، إلى مرحلة “العداوة” للمواطنين، أي أنّهم باتوا – ذهنيّاً ووجوديّاً وسلطويّاً – في وضْعِ الانفصام التّام، والقطيعة النّهائيّة، والإنفكاك المطلق مع أهل البلاد، وهو ما يُفسِّر لجوئهم إلى استعمال كلّ الأوراق في حرْق ما تبقّى من “خطوط اتّصال وتواصل” بين الطرفين.
ما يدعو إليه ناشطون اليوم هو تأسيسُ العلاقة مع آل خليفة بوصفهم طرفاً نقيضاً مع شعب البحرين، ما يعنيه ذلك من “عبثيّةِ” أي حديث للتّواصل أو المصالحة بين الطّرفين، لأنهما نقيضان لا يجتمعان إلا بتغيّر أو تغيير الظّروف القائمة، وأوّلها أن يسقط آل خليفة، ويستلم النّاسُ الحكمَ، لتتم إعادة بناء خارطة الوطن على قاعدة أنّ الشّعب منْ يقرّر مصيره، الحاضرَ والمستقبل.
البحرين اليوم-