أتم الاعتصام المفتوح في محيط منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم ببلدة الدراز؛ أكثر من تسعين يوما من الفعالية والتجدد ليكون الاعتصام الأطول في تاريخ البحرين الحديث، بعد اعتصام دوار اللؤلؤة الذي احتضن ثورة البحرين في ١٥ فبراير ٢٠١١م وحتى ١٥ مارس من العام نفسه، حيث فضّت قوات مشتركة من آل سعود وآل خليفة الاعتصام التاريخي الذي عُدّ أكبر التجمعات الشعبية العربية التي شهدتها ثورات الربيع العربي.
أوجه شبه عديدة يرصدها ناشطون بين اعتصام اللؤلؤة (ميدان الشهداء)، واعتصام الدراز (ساحة الفداء)، وخاصة مع محاصرة الخليفيين للبلدة، واستعمال النظام مختلف الوسائل للتضييق على المعتصمين وترهيبهم نفسيا وأمنيا. وفي حين كان اعتصام اللؤلؤة بمثابة التدشين الفعلي للثورة، والميدان المتكامل لفعالياتها؛ فإن اعتصام الدراز أكمل البُعد “الوظيفي” لتأسيس الثورة وذلك لكونه كان “المناسبة التاريخية” لوضع “النقاط على الحروف فيما يتعلق بأهداف الثورة ومسارها الحقيقي”، بحسب ما يتحدث أحد المعارضين الذي يشير إلى “النقاش المتواصل في دوار اللؤلؤة الذي لفّ حول مطلب إسقاط النظام، وطبيعة الموقف من آل خليفة ومشروعهم الحقيقي”. وفي الوقت الذي قدّم قادة الثورة المعتقلون “قراءات ومطالعات ومواقف مؤثرة لتثبيت خيار إسقاط النظام، إلا أن تطور الأحداث الذي ارتبط باعتصام الدراز؛ أسهم في تثبيت تلك المواقف، وسرّع الخُطى باتجاه المفاصلة مع آل خليفة، وإقامة الحاجز الوجودي والثقافي بينهم وبين البحرانيين”.
استعمل النظام جملةً من الأدوات في سبيل تفكيك اعتصام الدراز، وكان لافتا أن أداة “التدخل العسكري المباشر” ظلت “بعيدة المنال” على الرغم من محاولات “التوغل العسكري” ناحية منطقة الاعتصام، وتشديد الحصار وتمركزه حول البلدة، إلا أن النظام لم يذهب بعيدا – حتى الآن – في الهجوم على المعتصمين واستعمال “القوة” على نحو ما فعل مع اعتصام اللؤلؤة أكثر من مرة، وقبل الاقتحام الأخير الذي حصل بعد شهر كامل من المرابطة والاعتصام المفتوح. ويسجّل البعض اختلاف المكان بين الاعتصامين لتفسير اختلاف رد الفعل الحكومي في الحالتين، ولاسيما لجهة حساسية موقع اعتصام اللؤلؤة قرب العاصمة المنامة، وطبيعة النشاط المركزي الذي كان يدور فيه، في مقابل الاعتصام الجاري في داخل بلدة الدراز، وكونه نائيا عن الشوارع الرئيسية والأماكن الحساسة. وهي ملاحظة، كما يقول البعض، لها اعتبارها في المتابعة الإعلامية وتركيز الحدث أمام العالم، وهو السبب ذاته الذي دفع النظام لحظر أي نشاط أو مسيرة للمعارضة “الرسمية”، وخاصة بعد المسيرات التي نظمتها في الشوارع الرئيسية، والتي أضاءت للعالم حقيقة ما يجري في البلاد.
إلا أن تردد النظام في تحريك “التعامل العسكري” ضد اعتصام الدراز؛ له أسباب أخرى ومركبة. فالهجوم الخليفي على الشيخ قاسم، ومنه على الوجود الأصيل للمواطنين الشيعة، يظل مقرونا بمشاريع أخرى يخطط لها النظام، ومنها سعيه المتواصل لإحداث الإنقسام “الكامل” داخل التيار الذي يمثله الشيخ قاسم، واختراق صفوف “الناس” عبر تكوين “نخبة جديدة” تتولى من جديد “إعادة تسويق المفاهيم السابقة التي تجاوزتها الثورة، ومنها مفهوم الحوار مع النظام، والقبول بالحدود الدنيا من المطالب الشعبية” وبموازاة الجهد “غير المرئي” لتهيئة الطريق لصعود “وجوه متجانسة مع الخليفيين، وتمكينها من احتلال موقع المعارضين الذين يتوزعون بين السجن والمنفى والحصار داخل بيوتهم”. وبناء على هذا “المخطط”؛ فإن الخليفيين ينأون حتى الآن عن ارتكاب “جريمة كبيرة وبشعة” شبيهة بما حصل في دوار اللؤلؤة، وخاصة في خصوص رمزية دينية ووطنية بمقام الشيخ قاسم، وذلك لإتاحة “الفرصة” لتلك “الوجوه والنخبة المصطنعة” أن تتحرك في “منطقة المعاناة والألم الحاد، وتنفذ منه لتسميم البيئات الحاضنة للثورة”.
عدا ذلك، يؤكد محللون بأن آل خليفة “صُدموا” بنوع “المقاومة” التي أبداها كلّ من الشيخ قاسم والمواطنين ردا على استهدافه وقرار سحب الجنسية منه وترحيله. ويرى هؤلاء بأن “الأوساط القريبة من النظام كانت تعتقد بأن الشيخ قاسم سوف يرضخ للقرار الخليفي، متوسلين في ذلك باختياره – بعد العام ٢٠١٥م – الابتعاد عن منبر صلاة الجمعة في جامع الإمام الصادق، واعتماده شكل آخر من الظهور وتسجيل المواقف إزاء الأحداث. وبحسب هذه الأوساط؛ فإن النظام تعمّد “تكثيف الهجوم على الشيخ قاسم، وإرفاق قرار سحب جنسيته بسلسلة متشابكة مع الإجراءات القمعية، بما في ذلك اعتقال النشطاء وغلق جمعية (الوفاق) وجمعيتي (التوعية) و(الرسالة)”، وهو أسلوب كان يُراد منه إيصال رسالة للشيخ قاسم بأن “الموضوع ليس قيد اللهو، أو خاضعا للتكتيك، وأن العصا الغليظة لا حدود لها، ولا خطوط حمراء توقفها”، وهي “رسالة” تستند على “معطيات الأجهزة الخليفية التي قدّمت صورة للشيخ قاسم، وأنه غير راغب في (المواجهة) لتورعه عن إسقاط المزيد من الدماء والضحايا”.
يمكن تفسير إحكام الحصار على الدراز، واعتقال العلماء الذين قادوا الاعتصام هناك؛ باعتباره “طيشا خليفيا، وانتقاما من الصمود غير المتوقع من الشيخ قاسم، والمعتصمين على حد سواء”، وخصوصا بعد أن “مارس” الشيخ قاسم حضوره بعد كل ما حصل، واستمر في إصدار البيانات المشتركة مع كبار العلماء، وهو الأمر الذي جعل آل خليفة “محاصرين” بقرار استهداف الشيخ قاسم، فلم يعودوا قادرين على الانتقال من “الحرب النفسية” إلى خطوة تحريك المدرعات والمرتزقة إلى بيت الشيخ، كما أنهم فقدوا “الأهلية” للعودة إلى الوراء و”تصحيح خطأهم الكارثي”، وكان ملجأهم الوحيد هو الإبقاء على الحصار، وملاحقة العلماء المنظمين للاعتصام.
في هذا السياق أيضا، يجيء أسلوب “محاكمة” الشيخ قاسم، ومن بوابة فريضة الخمس. كان آل خليفة يتأملون أن يحقق هذا الأسلوب “هدفين مزدوجين”، الأول التغطية على فشلهم في “إخضاع الشيخ قاسم لقرار سحب الجنسية وبالتالي المغادرة من البلاد، والثاني الحفاظ على ماء وجههم بإبقاء الهجوم عليه والتلويح به، ولكن من خلال القضاء التابع لهم”. في هذه المرة أيضا، أظهر الشيخ قاسم، والعلماء كذلك، ردا “بدا غير متوقع من الخليفيين”، وذلك بمقاطعة الشيخ قاسم للمحكمة، واعتبار العلماء لها “غير شرعية”، وهو موقف يرصده متابعون في إطار “المقاومة المدنية العالية التي وجهت ضربة مؤلمة للعقل الخليفي”.
آثار هذه الضربة يمكن تتبعها في طريقة “التعاطي” الرسمي لمحاكمة الشيخ قاسم، وعلى النحو الذي ظهر يوم أمس الاثنين، ١٩ سبتمبر، في بيان النيابة العامة الخليفية الذي ادعى بأن الشيخ قاسم “لم يرفض الحضور للمحاكمة”، و”أنه لم يحضر التحقيق بسبب مرضه”، وأضاف البيان بأن “الحكم الذي سيصدر في القضية سيُعتبر حضوريا في حقه، سواء حضر ذلك المتهم فعلا أم تخلف عن الحضور”، وهو الأمر الذي جعل بعض المحامين يثير السخرية من بيان “محامي النيابة” الذي لم يفرق بين الحضور الشخصي والاعتباري.
في المقابل، لا يمكن “الجزم” بأن الخليفيين “يتعقلون” في إدارة “الوحشية” المسلطة على الشيخ والسكان، وهم معروفون بعدم “التورع عن ارتكاب أية فظاعة، ولو كانت بحق رمزية دينية ووطنية بمستوى الشيخ قاسم”، وهو ما يدفع البعض لعدم استبعاد أية “حماقة” في هذا الملف، واضعين سيناريو “المحاكمة” وما يصدر بشأنها؛ في إطار التمهيد لارتكاب تلك “الحماقة المجنونة”، مع استغلال النظام ما يصفه معارضون بالصمت “غير المبرر” للسياسيين في الداخل، وانكفائهم عن النصرة الفعلية للشيخ قاسم، وهو الموقف “المريب” الذي يمكن أن يكون “دافعا” لآل خليفة للإقدام على ما يبدو حتّى الآن “مستحيلا وآخر المتوقعات”، وخصوصا مع “الانكسار المتتالي” للنظام، وترسُّخ المفاصلة بينه والسكان الأصليين، وثبات الشيخ قاسم والمواطنين والقوى الثورية في معركة “الوجود والهوية”.
البحرين اليوم-