أثناء هدم قوات الأمن البحرينية لمجسم اللؤلؤة الشهير وسط العاصمة المنامة العام 2011، ظنّ كثيرون وفي مقدمتهم «القيّمون» على عملية الهدم تلك، أن وأد جوهرة «الحراك الشعبي» سيفضي بشكل أو بآخر إلى عمليّة تمييع له وعلى مراحل. فقد ظهرت الساحة الداخليّة ضعيفة في مواجهة النظام قياساً بساحات عربية أخرى، نظراً لتقيّدها بإضبارة سياسية حساسة، أنتجتها نخبة الحراك إبان انطلاقة «الربيع العربي» المصاحب للفوضى، والمنتج لها في مرحلة أخرى باتت أكثر تعقيداً اليوم. لم تُظهر «ثورة فبراير» ما يشي بإمكانية تحولها إلى نموذج تختلط فيه عناصر الفوضى بمطالب التغيير، بما يؤسس لتحوّل جذري يؤهل المملكة للدخول في مراحل أكثر راديكالية كما حصل في ليبيا وسوريا، مع ما يعنيه ذلك من انفتاح على صراع مذهبي وبأدوات محليّة، مع إمكانية هائلة لتصديره إلى أقطار خليجية قريبة، خاصة السعودية، نظراً للتداخل المجتمعي التاريخي، وللتماثل الثقافي والعقائدي بين المكوّنات البحرينية وتلك السعودية، تحديداً في المنطقة الشرقيّة.
جاءت زيارة رئيس وزراء البحرين وعمّ ملكها خليفة بن سلمان لمنطقة «السنابس» قبل نحو أسبوع، لتختصر مجمل الصورة الحالية للأزمة البحرينية، والتي تقوم على انسلاخ غير مسبوق بين «النخبة» الحاكمة والغالبية السكانية، حيث أن أقدم رؤساء الوزراء الموجودين على كوكب الأرض، دخل «السنابس» في زيارة «تنموية» وسط حراسة عشرات المدرعات وجنود القوات الخاصة، ليلاقي ترحيباً «بارداً» مع لوحة ترحيب يتيمة، أفرزت لها الحكومة حراسة خاصة مشددة، ثم ما لبث شبان المنطقة أن أحرقوها وصوّروا العمليّة بعد دقائق من مغادرة الشيخ بن سلمان المنطقة، علماً أن «السنابس» تعدّ من أكثر مناطق المملكة نشاطاً في تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات اليوميّة المعارضة للنظام. ما يعني خسارة العائلة الحاكمة حتى إمكانية إنتاج تحركات تدخل في وارد العلاقات العامة، بما يسهم في تحسين صورتها داخلياً وخارجياً، وبما يعني أيضاً فشلاً حكومياً في الحفاظ على «أبواب» خلفيّة للتواصل مع بيئات مجتمعيّة معيّنة.
بين هدم «اللؤلؤة» في آذار العام 2011 وإحراق «يافطة السنابس» في أيلول من العام الحالي، خمس سنوات لم تكن كافية على الإطلاق لاستكمال عمليّة احتواء الحراك الشعبي، برغم اعتماد سلطة المنامة عدداً من الخطوات التصعيديّة والتصاعديّة وعلى مراحل متعددة، خاصة أن القطيعة الحالية بين «الحكم» البحريني والفئات «الثائرة» عليه تجاوزت في الشكل والمضمون مجموع التسريبات السابقة على حدوث اتصالات «تهدئة»، تكفل قدراً معيناً من الانخراط السياسي للمعارضة في المؤسسة الحاكمة، تحديداً جمعية «الوفاق» المنحلّة، أكبر جسم سياسي في البحرين، وتكفل بالتالي انسحاباً تدريجياً للمواطنين من الساحات والشوارع. هكذا جاءت حزمة التصعيد الجديدة التي اعتمدتها السلطات في الشهور الأخيرة، والتي تركّزت على استهداف النخب الدينية نظراً لارتباطها المباشر بالنشاط السياسي المعارض وقيادتها للحراك المدني منذ انطلاقته، علماً أن «الوفاق» تُعدّ جمعيّة سياسية - دينية يقودها رجل الدين والنائب المستقيل علي سلمان المعتقل حالياً، إضافة لنشاطها مع جمعيات أخرى في فلك أو تحت رعاية الشيخ عيسى قاسم، أحد أبرز علماء الدين في منطقة الجزيرة العربيّة.
لم تَبدُ المنامة من قبل على هذه الشاكلة من عدم الاكتراث في اعتماد الخيارات السياسية، خاصة تلك التي تنطوي على مخاطر قياسية ترتبط بالطبيعة الحساسة للخط الفاصل بين الخصوم من سلطة ومعارضة، والمرتكز في الأساس إلى خريطة الانقسام الإقليمي القائم على تناقضات المحاور، والممتد من صنعاء إلى الموصل مروراً بدمشق. لكن التهديد المباشر يكمن أساساً في الأبعاد الداخليّة القائمة على تناقض أصبح «مذهبياً» بشكل فاقع وفظّ ومباشر. إذ تستمر السلطات من خلال أجهزتها المتنوعة بضرب الحراك السياسي الموازي للحراك الشعبي، وباستهداف النخبة السياسية المعارضة المكوّنة غالباً من رجال الدين، بما يعنيه ذلك من صناعة خطابة طائفيّة مصاحبة للمجهود السياسي لدى الطرفين، تحديداً من خلال استخدام النظام عناوين جزئية استفزازية، في سبيل استجلاب أو تكريس الحمائية الخليجية المبنية أساساً على العضلات السعودية.
هكذا يأتي تكريس القضاء البحريني لقرار حلّ «جمعيّة الوفاق» متمماً لمسلسل «اضطهاد» اجتماعي سياسي كبير مقارنة بالمجهود المعارض المقابل، المقتصر على تحركات سلميّة من اعتصامات وندوات وتظاهرات، مع بعض الاستثناءات المرتبطة بجماعات «راديكاليّة» تشكل أقليّة واضحة المعالم في الجسد المعارض. فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار حل «الوفاق» مسألة تقنيّة ذات أبعاد سياسية، خاصة أن الجمعيّة تُعَدّ وعاء اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، يصل إلى حد اعتباره «سلطة» مدنية ذات ثقل شعبي كبير مقارنة بسائر أطياف الفسيفساء الداخلية، بل حتى مقارنة بالعائلة الحاكمة. إذ إن التمثيل الشعبي لـ «الوفاق» أثبتته الانتخابات النيابية والبلدية والعمالية والطالبية، التي عادة ما حصدت فيها الجمعية نسباً تتراوح بين الستين والاربعة والستين في المئة من أصوات الناخبين خلال العقد الماضي، وكل ذلك بمعزل عن البعد «العقائدي» وانطوائه على مقدمات لتأزيم من نوع مختلف في المجريات والتبعات.
تنفتح البحرين في هذه الأيام على سلّة مختلفة من الاحتمالات. إذ إن الأبواب أصبحت مشرعة بشكل كامل أمام الاتجاهات الصاعدة الأكثر ارتباطاً بالعناوين الجزئية الدينية المنتجة للعصبيّة، خاصة أن السلطة ساهمت أو تسببت بهذا الواقع من خلال مواظبتها على ضرب المعارضة بشكل مباشر في رأسها، بغرض تفتيت الكيانات الأساسية المكوّنة للجسد المعارض الحالي وفي مقدمتها جمعيّة «الوفاق». ولا يمكن التعويل هنا بشكل كامل ودائم على استمرار الخطاب «السلمي والواعي» الذي اعتمدته، وما زالت، معارضة تقبع غالبية قياداتها في سجن «جوّ» المركزي. فتلقف «الوفاق» لحلّها النهائي من خلال الخطاب «المتزن» لنائب أمينها العام حسين الديهي، لم يعد كافياً لضمان سيطرتها واحتوائها الشارع، حيث إن التنافس «الشعبي» اليوم لن يكون لحساب السلطة بالتأكيد، لكنه سيكون من جيب وعلى حساب الجمعيات الأساسيّة الصانعة للحراك السلمي، ولخدمة تيارات أكثر «راديكاليّة» مما لا يمكن للساحة الخليجيّة أن تحتمل، وهو ما يفتح الباب على تصدير جديد للفوضى أو لأسباب الفوضى من البحرين إلى البيئة الخليجية الأوسع.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-