21 مايو/أيار 2004، سيتعرض الشيخ إلى هجوم مباشر من قبل قوات الأمن، وهو يتقدّم تظاهرة على شارع السيف. حادثة غامضة، لكن غموضها في حد ذاته يكشف عن تناقضات العلاقة بين الملك والشيخ عيسى قاسم.
ما إن اعترضت قوات الأمن التظاهرة قبل وصولها إلى دوار اللؤلؤة، حتى تدخّل الشيخ عيسى قاسم وطلب من الناس الرجوع. لحظة حديثه مع المتظاهرين، باغتته وابل الطلقات من قنابل الغاز والرصاص المطاطي.
كل ظروف الواقعة تدفع بأنّها لم تكن حدثا عرّضيا على وجه الإطلاق. «مفاجأةً مذهلة كان من الممكن أن يسقط فيها قتيل»، كما يصف الشيخ قاسم شاهدا على الحدث. أُخذ الشيخ إلى مكان آمن، وقالت الصحف إنّه تعرّض لحالة اختناق، لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ما حصل لاحقا.
اتّصل الملك بالشيخ عيسى يطمئن عليه، وأمر بتشكيل لجنة تحقيق، بل وأقال وزير الداخلية العتيد محمد بن خليفة آل خليفة، بعد أن كان يتسلّط على عرش الوزارة منذ استقلال البلاد (30 سنة)!
كل ذلك حدث في ذات اليوم، وفي غضون ساعات!
سيكون من حق الناس أن تتفاجأ من هذه السابقة، أكثر من تفاجئها من ضرب المسيرة. هل ضربت المسيرة من أجل إزالة وزير الداخلية العتيد بعد إلقاء اللوم عليه شكلا ؟ وهل كان ربّما ضمن الخطّة أو «المؤامرة» أن يحدث ذلك حتى لو أصيب الشيخ عيسى قاسم نفسه؟ أم أنّ المسيرة ضربت لإبداء حسن نيّة النظام تجاه المواطنين الشيعة وزعاماتهم، ولكن.. بعد ضربهم قليلا؟ أم أن كل ذلك كان محض صدفة استغلّها الملك في اتّصال آخر بالشيخ عيسى قاسم.
فضلا عن الاتصال، بدا كلام الملك مداعبا للمشاعر. قال إنّه منزعج، وغير راض، كما أنّه يشارك المتظاهرين غضبهم، ويقف مع احتجاجهم على انتهاك الحرمات الدينية في العراق!
وبلا شك، ستحظى خطوات الملك (التي يبدو أنها كانت مدروسة بعناية) برد فعل إيجابي كريم ومشيد من جانب الشيخ عيسى قاسم. سيصدر الشيخ (بمعية السيد الغريفي) بيانا يشير إلى اتصال الملك، مثمّنا «الإجراءات الملكية»، وسيصفها لاحقا في خطبة الجمعة بـ«الموقف الذكي والحكيم» وأنها تنم عن حرص ورغبة في الحوار وسد باب الفتنة.
لكن الشيخ هو أيضا كان يريد معرفة من وراء هذا التصرّف ما دام أنّه حدث «بغير رضا الملك». قال في البيان إن ذلك يضع «علامات استفهام كبيرة على الجهة التي تقف وراء هذا الاعتداء».
في اليوم ذاته، يصرّح الزعيم السابق لجمعية وعد، الراحل عبد الرحمن النعيمي أن «من أطلق تعليمات ضرب المتظاهرين كان يقصد عمدا تخريب العلاقة الودية التي بنيت الأربعاء الماضي إبان لقاء الملك المعارضة».
كان النعيمي يتحدّث عن لقاء الملك بالجمعيات السياسية، حول المسألة الدستورية، إثر أزمة العريضة الشعبية، أول تحرك عملي مضاد لدستور 2002، بعد عامين على صدوره.
قبل تلك الأربعاء، التي يتحدّث عنها النعيمي، كان هناك لقاء آخر مهّد لهذا الاجتماع بين الملك والمعارضة، بل رتّب له بشكل مباشر، ولعل هذا اللقاء هو الأكثر ارتباطا بضرب التظاهرة.
لم يكن الملتقون حينئذ غير الملك والشيخ عيسى قاسم نفسه! لماذا استمع الملك للشيخ عيسى قاسم؟ وكيف استطاع الشيخ التأثير فيه؟ ما علاقة ذلك بموقف الشيخ من دستور 2002 حين أُعلن؟ ماذا كانت طبيعة سياسته من القصر في ذلك الوقت؟ وهل كان الملك يؤمن بالشيخ عيسى قاسم، ويعتقد بواقعيته وإخلاصه وصدق نواياه؟
موقف الشيخ عيسى قاسم الأوّلي من دستور 2002
منذ الجمعة الأولى له في 6 أبريل/نيسان 2001، وحتى خطبته رقم 45 في 8 فبراير/شباط 2002، لم يذكر الشيخ عيسى قاسم الميثاق ولا تطرّق إلى إرهاصاته ولا مرّة واحدة. لم يحدث ذلك سوى قبل أيام فقط من الإعلان عن الدستور الجديد، ويبدو أنّ داعي الحديث كان معلومات مسرّبة حول ما سيحدث.
أعاد الشيخ في تلك الخطبة تأكيد النخب السياسية على آلية تعديل الدستور، والطبيعة الاستشارية لمجلس الشورى، واعتبر ذلك ضامنا لـ«التوافق» و«تعزيز الثقة» وذكّر بأنّ «هذا الجيل يريد أن يؤسس لعلاقات سياسية مستقرة». كان الملك (الأمير وقتها) قد أصدر إحدى «مكرماته» الاقتصادية وقتئذ، وهي إسقاط جزء كبير من قروض الإسكان. لم يدّخر الشيخ كلمات الثناء على خطوات الأمير، واعتبرها مؤشرا على اهتمامه وعنايته، ودعا له بالتوفيق، ثم ذكّره مجددا بأن مثل هذه الخطوات تحتاج إلى أن يكون التغيير في الدستور «دستوريا»!
لن تعني هذه الهواجس أن الشيخ عيسى قاسم سيسمح لـ«الدستور» أن يكون شغله الشاغل. السياسة بالنسبة له ستكون أبعد من مجرّد دستور لن يستطيع في أفضل الأحوال سوى مضايقة سلطات مطلقة لا زال يقر بها للأسرة الحاكمة.
في خطبة الجمعة التي جاءت بعد يوم واحد من الإعلان عن الدستور الجديد*، لن يأخذ الشيخ عيسى قاسم موقفا انفعاليا. كان متوقّعا ما سيحدث منذ مدة طويلة، ولم يكن يريد أن يتوقف كل شيء على هذا الدستور. لم يهاجم الشيخ التعديلات ولم يعط انطباعا بأنّه مستغرٍب أو متعجّب، بل قال كلاما أقرب إلى إمكانية القبول، قال إن التغييرات جاءت في مرتبة «وسطية بين مرحلة تطبيق الدستور وتعطيله... لم ترجع بنا التغييرات الدستورية إلى مستوى الدستور الأول، ولم تتجمد بنا بالكامل في نقطة تعطيل الدستور، وإنما هي مرحلة وسط»!
لم يكتف الشيخ قاسم بتخفيف حدّة الأزمة والتعاطي معها بهدوء، بل شدّد على أن ذلك ينبغي أن لا «يُحطّم العلاقات السياسية، أو يؤثر على وضع الاستقرار بسوء»، وأن لا تعود البحرين إلى ما كانت فيه من فتنة داخلية مرهقة.
الأكثر من ذلك، أن الشيخ كان يتحدّث شبه مسلّم بأنّ التجربة لن ترفض. قال مبكّرا إنّ المشاركة واجبة «يتحتّم على المجتمع المسلم أن يفي لإسلامه في كل عملية انتخابية، وذلك بالحضور الناشط والفاعل إعلاما وتصويتا».
وفضلا عن ذلك نصح الشيخ الملك بحسن اختيار أعضاء مجلس الشورى! قال إنّ الشعب «يطمح» أن يُراعى في تعيين أعضاء الشورى «مصالح الشعب وقناعاته.. وكفاءة الخبرة.. ورعاية الدين»!
في الخطبة اللاحقة سيبرّر الشيخ رأيه بالقول إن الدفاع عن الحقوق وحماية المصالح له أكثر من أسلوب، والأساليب دائماً يخضع اختيارها لخلفية القيم و«مقتضيات الواقع»!
إجابات على أقل تقدير
وبشكل لا يقبل الشك، كان الشيخ لا يريد أن يكون دستور 2002 «قميص عثمان»، لا يريد أن تعطّل الحياة ومشاريع «الإصلاح» حتى لو كان هناك عبث بالدستور، واحتيال وغدر سياسي.
ربّما رأى الشيخ قاسم هذا قادما منذ أن أصدر بيانه المناهض لميثاق العمل الوطني في العام 2001. ربّما عرف أننا مقبلون على لعبة سياسية كبيرة لا محالة من دخولها. وربّما نفهم انقلاب موقفه من أقصى اليمين إلى الوسط، كونه يحس بأن الوقت قد فات، وأن «الواقع السياسي» يشير إلى استحالة الاستدراك، وأنه اختار أن تكون السياسة «سجالا»، منذ عدل عن موقفه تجاه الميثاق.
بعد حوالي 5 أشهر، وتحديدا في يوليو/تموز 2002، سيرى الشيخ أن مسألة الدستور والإحساس بطعنة النظام الغادرة ذهبت عميقا في العقل الباطن للشارع والنخب، ولم يعد بالإمكان تهوينها. سيستدرك موقفه السياسي قليلا، بعبارات يصوغها بشكل حذر. سيقول إن التغييرات الدستورية يجب أن تلتزم طريق الميثاق. وإنّها عكّرت مسار النهج الإصلاحي وخلقت بلبلة شعبية وشروخا. مع ذلك، لم يترك الشيخ حتى في هذه الخطبة لغة الدبلوماسية وفن الممكن، وطرح على سبيل التساؤل: هل «ستبقى» هذه التغييرات الدستورية كما هي (إلى الأبد) أم ستتغير؟ وقال إن المطلوب من الحكومة على أقل تقدير «إجابات» على هذه الأسئلة!
وحين اندلع خلاف المشاركة والمقاطعة، وصار لا بد من اتخاذ قرار، التزم الشيخ عيسى قاسم موقف الحياد، بل وموقف الصمت. ونهى عن أن يسبب ذلك خلافا ضارا مع الحكومة. وأكد على أن تظل القنوات الرسمية مفتوحة للمطالبة بالحقوق وتصحيح الواقع، وكان أول من جاء على لسانه لفظة «حوار».
سيرى الشيخ عيسى قاسم لاحقا إن «المسافة بعيدة في الانتقال من مجتمع الفوضى إلى مجتمع الاستقرار». ولكن سيكون أخشى ما يخشاه أن تعود العلاقة بين الناس والحكومة إلى التصدّع والانقطاع.
المسكوت عنه
وبعد إعلان الجمعيات مقاطعتها للانتخابات، في بداية سبتمبر/أيلول 2002، سيعلن الشيخ عيسى قاسم رسميا بأن موقف العلماء من المقاطعة والمشاركة هو حاليا: الصمت!
بعد إجراء الانتخابات، لن يتغير موقفه الهادئ. بل سيخاطب المشاركين ويتحدث عن مسئوليتهم ودورهم الآن، ومسئولية نوابهم الذين دخلوا «ليمثلوا الشعب بأكمله» خصوصا في ظل شراكتهم ولو النسبية في سن القوانين، حسب ما جاء في الخطبة.
إن كشف الشيخ عيسى قاسم (بعد سنوات) عن أن موقف العلماء (الذي سكت عنه) كان فعليا مع المشاركة في الانتخابات، يشي بالكثير. يمكن القول إن المسألة الدستورية ظلت وكان يمكن أن تبقى في دائرة المسكوت عنه لدى الشيخ، لصالح مسائل أخرى. هو موقف مبني على فهم مغاير للميثاق والإصلاحات، يختلف في تقييم نضوجها ومنجزها.
آل خليفة لم يكن ليعطوا الحكم عن يد وهم صاغرون. المراوغات السياسية يمكن امتصاصها، والواقع الدستوري لا يجب أن يكون المحدّد الوحيد للواقع السياسي. في الأخير، فإن الشيخ عيسى قاسم قد ألف منذ 1973 ديمقراطية «نسبية»، تجعل من المحتّم عليك (وإن كانت نائبا) التعامل مع السلطة الحاكمة حتى خارج المؤسسات الديمقراطية.
لم يصدق الشيخ من الأساس أكذوبة الميثاق، ولم يدر في خلده لحظة أن آل خليفة صادقون في تسليم السلطة التشريعية كاملة للناس، طواعية. إذا كان عليه أن يتعامل مع هذا الواقع، فإنّه لن يزيّفه، ولن ينتظر منه وهما.
لنتذكر أن زيارة ولي العهد لمنزل الشيخ عيسى قاسم كانت في أوج الخلاف المستعر حول الدستور والمقاطعة والمشاركة. لا يوجد في الواقع مثال أكثر صراحة من هذا على طبيعة سياسة الشيخ.
لكن النظام، لم يستفد من كل هذه المرونة السياسية، والصدق، والحذر، وحسن النية. بل راح يلاعب الشيخ، سياسة، لغاية واحدة: إجبار المعارضة الشيعية على القبول الكامل بمشروع الملك، والدخول في البرلمان، على كل علّاته.
قانون الأحوال الشخصية: رد الفعل العكسي
أول مرة يصف الشيخ عيسى قاسم هذه القضية بـ (الأزمة الدستورية) أو (المشكلة الدستورية) كانت بعد أن استفحل موضوع قانون الأحوال الشخصية، وهي أولى أوراق الملك السياسية كما سبق وأن فصّلنا في الحلقة الثانية من هذا الملف (انظر: آية الله قاسم... أطياف الشيخ خلف في قصر الملك حمد!)
أحدثت أزمة قانون الأحوال الشخصية رد فعل عكسي لدى الشيخ. سنجده منذئذ يقف عند عنوان الأزمة الدستورية ولا يغادره، عبر تاريخ خطب الجمعة، حتى الربع الأخير من العام 2006، حين تعلن الجمعيات السياسية قرارها المشاركة في الانتخابات.
وجد الشيخ عيسى قاسم نفسه مشغولا ومهموما بمشروع الأحوال الشخصية، تغيرت روح خطبه اللاحقة لتمتلئ غضبا وحسرة وتأسف. هو موضوع لا يمكن أن تتوقف عنده دواعي الاستقرار والوحدة والوطنية وما إلى آخره.
من هنا سيبادر هو في الطعن لا بدستور الملك، بل حتى بدستور أبيه. في يونيو/حزيران 2003 (بعد حوالي شهر من لقائه الملك عن موضوع الأحوال الشخصية)، سيتحدث الشيخ عيسى قاسم تنظيريا عن الميثاق وعن الدستور الأول (1973) والثاني (2002)، ضمن سياق الموقف «الإسلامي».
وبعد أن يؤكد أن كل هذه العناوين لا تمثل إسلاما تاما، سيعلن أيضا إنها لا تمثّل ديمقراطية تامّة. ثم سيقول «لا يصح لإنسان مسلم أن ينظر إلى الدستور الأول على أنه أكبر الطموح. الديمقراطي لا ينظر له بهذه النظرة، والإسلامي أولى بأن لا ينظر إليه بهذه النظرة».
بعد قانون الأحوال الشخصية، ليس كما قبله. سيدخل الشيخ عيسى قاسم في الجدل الدستوري، وسيخسر النظام موقفا كان بالنسبة له أكثر من حلم. وهكذا وصولا إلى المؤتمر الدستوري، باتت التعديلات الدستورية (والهدف اللاحق لها وهو دخول المجلس النيابي) قضية الشيخ، وشغله الشاغل. صار يرى أن بقية القضايا (وعلى رأسها الأحوال الشخصية) عرض لا مرض.
المؤتمر الدستوري: نقطة الانعطاف
إذا كان هناك ثمّة نقطة انعطاف في خطاب الشيخ عيسى قاسم تجاه مشروع الملك، فإنّه المؤتمر الدستوري (انعقد في 14 فبراير/شباط 2004). لقد تغيّر تعاطي الشيخ مع الأزمة الدستورية منهجيا منذ هذا التاريخ.
بحذر شديد يصف رئيس جمعية الوفاق الشيخ علي سلمان المؤتمر الدستوري بـ «حركة تصحيحية واجبة، ليس الغرض منها كسر هيبة النظام». سيشدد سلمان مرات ومرات على أنها «حركة مطلبية لا تزعزع حكومة آل خليفة»، وعلى أنها «حركة سياسية سلمية منضبطة بأمر قيادتها العلمائية والدينية والسياسية».
القيادة العلمائية (المتمثلة بالشيخ عيسى قاسم) من جهتها دعمت المؤتمر بلا تحفّظ، ودافعت عنه بقوّة «المؤتمر الدستوري هو مؤتمر مقترحات ومطالبة بتعديل الدستور، مؤتمر معقول وقانوني، ويقع على خط الإصلاح... والجمعيات السياسية مطالبة جداً بمثل هذه الخطوات».
كان الشيخ ينوء تحت أوراق اللعبة السياسية، وأقساها قانون الأحوال الشخصية.
بعد تجاهل طويل، وقف الشيخ عيسى قاسم في منبر الجمعة بمناسبة انعقاد المؤتمر الدستوري، مفصّلا إشكالات دستور 2002: عدم التعاقدية، عدم التوافق مع الميثاق، تقييد الإرادة الشعبية بإرادة الحكومة، وتخلفه الشديد عن دستور 73، وسلبه الكثير من صلاحيات الشعب. الشيخ قال للمرة الأولى إن دستور 2002 مصادرة لتضحيات الشعب ودماء شهدائه، ووصفه بـ«الانتكاسة المروّعة»! وفي الواقع لم ينتقد الشيخ دستور 2002 فقط، بل وعاد أيضا لانتقاد ميثاق العمل الوطني «إذا جاء أقل من سقف دستور 73».
رد الملك
وجّه منظمو المؤتمر الدستوري دعوة للديوان الملكي، الذي أرسل لهم اعتذارا، مذيّلا بأن الملك يدعم مثل هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات، ما اعتبره الشيخ علي سلمان التفاتة إيجابية من «جلالته».
بعد اختتام المؤتمر بيوم واحد، وفي لقاء بمناسبة الذكرى الثالثة للميثاق، سيتحدث الملك بلغة احتواء هادئة «كلي أمل في أن أمورنا في هذا الوطن يجب أن نعالجها بروح الأسرة الواحدة وأن نحقق المزيد من المكاسب الوطنية». سيذكر الملك في خطابه هذا «التمسّك بالدّين» مرّتين، ثم سيتحدّث عن عدم الوقوف عند مرحلة معيّنة وأن سنّة الحياة هي التطوير.
لا شك بأن خطاب الملك بدا كنوع من الإجابات لأسئلة الشيخ عيسى قاسم القديمة، ومظالمه الأخيرة. لكن الأمور راحت على أي حال إلى طريق آخر. لم يمنعها الملك من أن تسلك طريق اللاعودة. بات التنسيق بين الشيخ عيسى قاسم والجمعيات السياسية أكبر بكثير. صارت هناك جبهة واحدة، وبات خيار مواجهة الانقلاب الدستوري واضحا. وهذه المرة من سيبادر للعب السياسي هم المعارضة.
ستعود السياسة من جديد إلى «خطوط المواجهة العريضة»، وسيمسك الراية رجل التسعينات نفسه، الشيخ علي سلمان.
العريضة الدستورية: الزمن يعود بدل أن يتقدّم
بعد شهرين من انتهاء المؤتمر الدستوري، وبناء على مقرّراته، سيبدأ الترتيب لإطلاق عريضة شعبية وإرسالها للملك. ستكون كلمة عريضة بحد ذاتها مثيرة للحساسية، لأنّها ستذكّر ببدايات انتفاضة التسعينات**. هي إحساس كئيب على الجميع بأن الزمن يعود، بدل أن يتقدّم!
رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني قال صراحة إن العريضة الشعبية معناها العودة إلى التسعينات. على مدى أشهر، دار جدل كبير حول العريضة، والحق في التوقيع عليها، حتى امتلأت بعض الجدران بشعارات مثل «سنوقع العريضة رغم كل التحديات». ربّما ينظر القارئ اليوم إلى ذلك بأنّه أمر مضحك ومثير للسخرية. لكن الحسابات السياسية المعقّدة وقتئذ، جعلت من مخاطبة السلطات في شكل عريضة تبدو مشروع حرب!
ومباشرة في مارس/آذار 2004، بدأت ما يسمّيها جستن غينغلر عملية «التحشيد والتعبئة السياسية» المبرمجة. هكذا امتلأ فضاء الإنترنت بمشاركات ضخمة، ونظّمت الكثير جدا من الفعاليات والندوات الجماهيرية في النوادي والمآتم والمساجد والجمعيات وحتى في الساحات والشوارع. برز عدد كبير من المتحدّثين، وكان الشيخ عيسى قاسم موجودا، كغطاء شرعي ضروري جدا.
الرجل المختص في العرائض منذ التسعينات، رجع يلف البلاد تحشيدا. ورغم قدرته الهائلة في المحافظة على هدوئه، لم تخل خطابات الشيخ علي سلمان من عصبية وتوتّر. أُعلن عن ندوة جماهيرية لإطلاق العريضة والتوقيع عليها في 21 أبريل/نيسان 2004، وفورا وقفت الحكومة في وجه المشروع برمّته، وهدّد وزيرها مجيد العلوي بحل الجمعيات السياسية إذا قامت بجمع التوقيعات من غير أعضائها!
كثر الأخذ والرد والتهب الجو السياسي كثيرا. ذهب أحدهم إلى القول إن شهر العسل بين الحكومة والجمعيات السياسية سينتهي في 21 أبريل. البعض قال إنه يوم استفتاء شعبي، وآخرون طالبوا بإجازة. لكن 21 أبريل مضى هادئا جدا، ولم يدخل ذاكرة التاريخ، لأن الندوة قد ألغيت!
رسول الملك
رشحت أنباء بأن الحكومة (أو الملك) بعثت برسول إلى الشيخ عيسى قاسم، لإيقاف هذا المد السياسي. لم يكن الرسول سوى الدكتور مجيد العلوي. أبرز ما أشيع أن العلوي حاول التأثير في الشيخ عيسى قاسم بنقل رسائل تهديد عن الحكومة. فإما إلغاء/تأجيل العريضة، أو إغلاق الجمعيات واعتقال قيادات ورموز دينية وسياسية. نقل بأن الوزير قال للشيخ إن «كيان الطائفة الشيعية سيكون في خطر» بسبب هذه العريضة.
وإذا لم يمكن التأكيد من صحة ذلك، فإن ما لا يقبل الشك هو أن الجمعيات السياسية بدعم من (أو ربّما بضغط من) الشيخ عيسى قاسم، قرّرت عدم تجاهل الكلام الرسمي للعلوي، كونه لا بد يصدر عن موقف من القصر. كاد الموقف السياسي أن يتسبّب في انشقاق مبكّر في صفوف قيادات الوفاق، كما حققت الحكومة اختراقا حين استطاعت وقف حماس الشارع، وإعادته إلى حالة الإحباط.
لكنّ العريضة لم تلغ. استخدمت القوى السياسية حيلة تخفف من الانفعال والشد والجذب، وتبقي الحراك مشتعلا. ونالت هذه الحيلة أيضا مباركة الشيخ عيسى قاسم بشكل قوي جدا.
كانت الحيلة هي دعوة الناس إلى ملء استمارة انضمام إلى إحدى الجمعيات، ومن ثم التوقيع على العريضة باعتبارهم أعضاء في الجمعية، فيما عرف بـ«وقّع ثم وقّع». وعوضا عن مقر مركزي، نشرت الجمعيات عشرات اللجان في القرى والمدن لجمع العضويات والتواقيع.
«هذا الخيار هو الآخر خيار رشيد حكيم»، 20 أبريل/نيسان 2004، كلمة استثنائية للشيخ عيسى قاسم، يتحدث فيها عن موضوع العريضة، متدخّلا فيه بشكل مباشر لأوّل مرة. دعم الشيخ قرار الجمعيات السياسية وأعلن أنه صدر بالتشاور مع العلماء. قال في تنظيره للقرار إنه «يُثبت أن هذا الشعب لا يرغب في أي مصادمة ولا مواجهة... يتنازل الشعب عن الموقف الدستوري وهو يؤمن بدستوريته، ويتنازل عن الموقف الشرعي الذي يبيحه الشرع المقدّس وهو يؤمن بشرعيته، من أجل سحب أي مبرّر من المبررات التي قد يستعملها الطرف الآخر في اغتيال خط الإصلاح».
وبعد 3 أيام، سيكرر الشيخ عيسى قاسم موقفه في خطبة الجمعة، معيدا الحديث عن كل الأزمة الدستورية التي أنهت آمال الإصلاح «أصبحت المسألة الدستورية مسألة واقع لا فرضية... وروح الحماس في الشعوب ليس لمصلح أو حكومة أن تقتلها».
العودة إلى أمن الدولة
لم يسحب قرار الجمعيات البساط من الحكومة، ويسقط ذرائعها، كما أمِل الشيخ عيسى قاسم. كلام الشيخ الذي وظّف لإعادة الزخم السياسي في الشارع بشكل كبير، حقّق مفعولا مزعجا. استمر الفعل السياسي في الظهور، وخرجت أخباره إلى الإعلام الدولي. بادر الناس بالتجمع بأعداد كبيرة في مقرات التوقيع على العريضة، بالمساجد والمآتم والشوراع والجمعيات وحتى الخيام.
لم يعجب هذا الحكومة ولا الملك بالطبع، ومع بداية مايو/أيار 2004، اعتقلت السلطات أكثر من 15 شابا من العاملين في جمع التوقيعات على العريضة، في أول رد فعل عنيف تجاه هذا التحرّك. كانت تهمة المعتقلين هي «العمل على تغيير النظام السياسي بوسائل غير مشروعة»! كان الرد باختصار: تعودون للعرائض، نعود لأمن الدولة! تأجّج الشارع كثيرا، لكن الجمعيات طلبت من فرقها الاستمرار في العمل بجمع التواقيع.
في خطبة الجمعة 7 مايو/أيار 2004، اعتبر الشيخ عيسى قاسم الاعتقالات تجريدا للسيف من غمده سينتهي بالفشل السياسي، وقال إن «العريضة ليست للتحدي»، ورأى إنه ليس من المستحيل الاتفاق على طريقة لتعديل الدستور، ومجددا دعا الشيخ إلى «حوار مفتوح» على المسألة السياسية للتوصل إلى حلول واستعادة حالة الثقة.
الشيخ مؤثّرا في الملك
لن تجدي مع هذا الحال خطب الجمعة فقط. ذهب الشيخ عيسى قاسم إلى الملك بنفسه.
في 9 مايو/أيار سيجتمع الشيخ قاسم والسيد الغريفي بالملك في قصر الروضة. نقلت وكالة أنباء البحرين خبر الاجتماع، وقالت إنه بحث قضايا الشأن العام التي تهم الوطن والمواطن، وإن الملك اعترف فيه مجددا بدور علماء الدين في «تعزيز الوحدة الوطنية ورعاية المصلحة العامة للبلاد». الوزير مجيد العلوي كان حاضرا في اللقاء أيضا، ووصفه بأنه كان وديا، وقال إن الملك اعتبر مثل هذه اللقاءات مبعثا للاطمئنان بوجود قنوات اتصال بين المؤسسة الرسمية والشخصيات النافذة في الموقع الاجتماعي.
الأربعاء 19 مايو/أيار 2004، في قصر الصافرية، وبناء على طلب من الشيخ عيسى قاسم، اجتمع الملك برؤساء جمعيات سياسية تسعة، بينها جمعيات المعارضة. الراحل عبد الرحمن النعيمي والشيخ علي سلمان أكّدا أن الحديث دار عن المسألة الدستورية.
استمع الملك للشيخ عيسى قاسم، وفي ذات اليوم أصدر أمرا بالإفراج عن معتقلي العريضة، وتوجيها لوزير العمل بالحوار مع الجمعيات السياسية.
كان ذلك أوّل حوار رسمي بين المعارضة والنظام عن الأزمة الدستورية، وأول نتيجة عملية لمحاولة الشيخ عيسى قاسم التأثير على الملك!
* لم يكن أحد يعرف أن التعديلات على الدستور ستصدر في 14 فبراير/شباط 2002، ولا أحد كان يدري بما يجري في المطبخ السياسي، إذ إن المعارضة كانت بعد ميثاق العمل الوطني 14 فبراير/شباط 2001، تنتظر صياغة التعديلات الدستورية وعرضها على الشعب في استفتاء واضح، باعتبار ذلك الآلية الوحيدة التي أقرّها دستور 73 لإجراء تغيير شرعي على بنوده. أعطى الدستور الجديد (الذي أعلنه الملك بإرادة منفردة) مجلس الشورى المعيّن سلطة تشريعية موازية لمجلس النواب المنتخب، واعتبره الغرفة العليا من البرلمان، رغم كل التعهّدات التي أطلقها الملك عشيّة التصويت على ميثاق العمل الوطني، الذي كانت بعض نصوصه غامضة وضبابية. كما تغيّرت الكثير من مواد الدستور القديم بشكل يقلّص من صلاحيات البرلمان، ويقوّي من نفوذ الملك والسلطة التنفيذية، وذلك دون أن تعرض هذه التغييرات على استفتاء، ودون أن يكون لتغييرها أي إشارة حتى في ميثاق العمل الوطني.
** بدأت انتفاضة التسعينات في 1992 بعريضة نخبوية تزعّمها الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري، برفقة مناضلين من التيار اليساري، وشخصيات إسلامية سنّية انشقّت لاحقا. وحين رفض الأمير الراحل تسلم العريضة، ذهب الخيار إلى تدشين عريضة شعبية، وكان الشيخ علي سلمان الرجل الأبرز والأكثر نشاطا في التحشيد للتوقيع عليها. محور المطالبات في هاتين العريضتين كان إعادة العمل بدستور 73 الذي جمّده الأمير بشكل غير قانوني حين حل المجلس الوطني عام 1975، وأسند صلاحية التشريع لمجلس الوزراء. ويعتبر دستور 73، وهو أول دستور في البلاد وقد كتبه مجلس منتخب من الشعب، دستورا متطوّرا بالنسبة لدستور 2002، الذي صدر بعده بحوالي 30 عاما. وقد خسرت المعارضة ذريعة قانونية مهمّة في مطالباتها حين قام الملك بلعبة تغيير الدستور كليا بناء على «تفويض الميثاق»، إذا كان موقفها في التسعينات يقوم على المطالبة برفع التجميد عن الدستور العقدي الذي أقرّه النظام بنفسه، لكنّه تحوّل في 2002 إلى رفض وثيقة الدستور ككل باعتبارها غير عقدية.
مرآة البحرين-