طرق قرية الدراز في البحرين كثيرة، وقليلون هم مَن يدخلون إليها هذه الأيام.
أكثر من أربعة أشهر مضت على عزلة القرية، التي تبعد حوالي 10 كيلومترات عن غرب العاصمة البحرينية المنامة، عن محيطها وأهلها القاطنين خارجها وروّادها.
ويرابط عدد من سيارات الشرطة وعناصر قوات الأمن في محيط القرية، إذ أغلقته بالكتل الإسمنتية والحواجز والأسلاك الشائكة لمنع أي تسلل إليها.
أما مداخل القرية التي تصل إلى 16 مدخلاً، فأغلقت هي الأخرى من قبل قوات الأمن، ولم يعُد باستطاعة الأهالي الخروج والدخول إليها، إلا عبر منفذَيْن خاضعين لسيطرة الشرطة أيضاً، والتي تتحقّق من هويات الداخلين وتمنع كل مَن لم يحمل عنواناً في القرية من الدخول إليها، حتى لو كان من أهلها.
عناصر الشرطة لا يعنيهم أيُّ شيء في القرية، لا المدارس ولا الزيارات العائلية ولا المناسبات، ولا حتى تزويد القرية ومنازلها بالخدمات.
قريةٌ أصبحت مقطّعة الأوصال، وبات الابن الذي يسكن خارجها، لا يرى والديه، وأصبحت البنت المتزوّجة من خارج قريتها محرومة من رؤية أسرتها، ولم يعُد باستطاعة الأصدقاء اللقاء.
هذه الأزمة التي تعيشها قرية الدراز، مسقط رأس المرجع الديني الشيخ عيسى قاسم، صاحب النفوذ الشعبي الواسع في البحرين، جاءت بعدما أسقطت الحكومة البحرينية الجنسية عن قاسم، على خلفية اتهامها له بتهم عديدة، بينها غسيل أموال، وهو ما نفاه قاسم، موضحاً أن الأموال التي بحوزته، هي حقوق شرعية أو ما يُعرَف بالخمس، والتي تكون خاضعة في العادة لرجال الدين وتوزّع على الفقراء والمحتاجين والأعمال الخيرية.
ما قامت به الحكومة، أثار حفيظة الغالبية البحرينية التي قررت تنفيذ اعتصام مفتوح أمام منزل الشيخ، وهو ما اعتبرته الحكومة مخالفاً للقانون فأغلقت منافذ القرية تجنّباً لدخول المزيد من المتضامنين إليها.
في طريقك إلى الدراز قادماً من شرقها أو غربها عبر المنفذَين، لا يمكنك سوى التفكير بالوقت الذي ستمضيه عند مدخلها في زحمة السير، إلى أن تصل نقطة الأمن، حيث عليك ومَن معك، إبراز رخصة السوق، التي تدوّن فيها منطقة السكن، أو بطاقة الهوية التي يتم التحقق من العنوان عبر إدخالها في جهاز لتفحّص البيانات.
لا يمكنك الدخول إذا لم يكن عنوانك مدوّناً على أنه في المنطقة ذاتها، مهما كانت مبرراتك، وحتى لو كنت ساكناً فيها، إلّا بتصريح أمني، فإذا كان عنوان القرية مدوّناً على البطاقة تمرّ بسلام. هذا بالنسبة للبحرينيين، أما غير البحرينيين فمسموح لهم بالدخول من دون إبراز أي هوية.
تسير في القرية التي يقدّر عدد قاطنيها بعشرين ألفاً، فتشعر بأن ثمة قصصاً وحكايات لمعاناة الأهالي من هذا الحصار، يمكن أن تراها في وجوههم. في كل بيت معاناة، وعند كل شخص حكاية يريد أن يبوح بها.
يقول أحد أهاليها، ص.أ. (50 عاماً) إنه لم يخرج من الدراز عبر المنفذَيْن لأكثر من أربعة أشهر، على الرغم من أن منزله فيها، ولكن عنوانه مسجّل في عقار آخر يملكه في منطقة القضيبية، غير أنه استطاع الخروج والدخول أكثر من مرة سيراً على القدمين، عبر ثغرات في محيط القرية.
شخص آخر يُدعى س.ح. (55 عاماً) يقول إنه لم يخرج من الدراز منذ حصارها، مضيفاً أنه سكن القرية منذ 30 عاماً، لكن عنوانه بقي على منزل والده في مسقط رأسه في المنامة، وكان يتردّد أسبوعياً للقاء العائلة، مشيراً إلى أنه انقطع اجتماعياً عن عائلته ولم يعُد يستطيع الخروج حتى إلى المستشفى.
قرب مقبرة القرية المترامية الأطراف، ترى جموعاً من الناس جالسين في حالة ترقّب، تسأل مَن المتوفَّى، يقول أحد الموجودين هناك، إنه رجل في منتصف الخمسينيات، والجميع في انتظار أحد أشقائه الذي يسكن خارج المنطقة، وهو حالياً في مركز شرطة البديع القريب من الدراز منذ ساعتين، يحاول الحصول على تصريح بالدخول للمشاركة في التشييع.
تمشي بين الحاضرين فتلتقي بشخص يتحدّث عبر الهاتف ويتجمّع حوله ستة أشخاص، يبدو أنهم أقرباء المتوفى، يطلب المتحدث عبر الهاتف من مسؤول عن مأتم في قرية المرخ القريبة من الدراز، استضافة مجلسي العزاء للرجال والنساء، بسبب حصار القرية، حيث لم يتمكّن أقرباء وأصدقاء عائلة المتوفى من تقديم التعازي.
نتّجه شرق القرية، وتحديداً إلى «شارع البريد» كما يحلو لأهل القرية تسميته، نسبة لمقر بريد الدراز الذي كان يقع في الشارع ذاته قبل نقله إلى قرية البديع القريبة. أهالي الدراز لم يفقدوا مقر البريد فحسب، بل فقدوا حتى خدماته مؤخراً أيضاً بسبب الحصار، ولم يعد ساعي البريد يتجول في شوارعها، لكون القرية غير آمنة، بحسب تبرير إدارة البريد نفسها، والأهالي مضطرون للذهاب بأنفسهم لمبنى البريد في البديع لأخذ مراسلاتهم.
أبو علي (35 عاماً) الذي يسكن قرب مبنى البريد يعلّق على وقف خدماته بالقول إنها «محاولة فاشلة لتشديد الخناق على الأهالي ومضايقتهم بسبب تضامنهم مع الشيخ قاسم».
في الشارع ذاته معاناة أخرى، حيث بدت المحالّ التجارية تعاني قلّة الزبائن، وبعضها اضطر للإغلاق وما تبقى يعتمد على زبائن القرية.
وبالقرب من بيت الشيخ قاسم، يصرّ المرابطون على الاستمرار في الاعتصام، على الرغم من اعتقال عدد منهم، بينهم رجال دين.
في محيط الشارع الذي يُقام فيه الاعتصام، علّقت لوحة كبيرة، بداخلها صور لقرابة 156 معتقلاً من أهالي قرية الدراز وحدها، ولوحات أخرى متضامنة مع قاسم وأخرى سياسية، ربما هي كافية لاختزال عمق الأزمة السياسية والحقوقية التي تعيشها البلاد.
إلى ساحلها الذي بات يسوده ظلام دامس، بعدما كان ملاذاً للآلاف من أهالي قرى المحافظة الشمالية، يسوده الهدوء حالياً وينتظر روّاده الذين طالما ارتادوه لسنوات.
بالقرب من الساحل، يقع جامع الإمام الصادق الذي كان يحتضن أكبر صلاة جمعة في البحرين، بإمامة الشيخ محمد صنقور، الذي خلف الشيخ عيسى قاسم في إقامة الجمعة، لكن صنقور لم يعد باستطاعته دخول الدراز ومعه آلاف المصلين من خارج القرية لأداء الصلاة بسبب الحصار.
حصار القرية امتدّ أيضاً إلى الشبكة العنكبوتية أيضاً، ما إن تصبح الساعة السابعة مساءً حتى تنقطع شبكة الإنترنت عن القرية، ولا يمكن لأحد استخدام برامج التواصل عبر أجهزة الهواتف أو أجهزة البطاقات الائتمانية في المحالّ التجارية، ويستمر الانقطاع حتى الواحدة فجراً.
ولا يشكو الأهالي من نقص في الموادّ الأساسية، لكنهم يشكون الصمت الحقوقي والدولي، عما يتعرضون له من حصار، أدى إلى ضعف في العلاقات الاجتماعية والأسرية، فضلاً عن تأثّر أصحاب المحالّ التجارية وبعض المصالح المرتبطة داخل القرية.
هذا الواقع، يقول عنه أهل الدراز، إنه لن يغيّر من قناعاتهم في الدفاع عن شخص الشيخ قاسم الذي يرفض الحضور للمحاكمة ـ التي أرجئت لأكثر من مرة ـ ولن يثنيهم عن مواصلة الحراك حتى الإصلاح السياسي والدستوري في البحرين.
ويحبس الدرازيون أنفاسهم في كل محاكمة للمرجع قاسم، ولكن ما إن تُرجأ المحاكمة لموعد آخر، حتى تتبدد آمالهم في إنهاء الحصار.
هكذا باتت قرية الدراز منذ أربعة أشهر، تنتظر مَن ينهي حصارها، علّه يكون مفتاحاً لحلّ الأزمة السياسية والحقوقية التي تعيشها البحرين منذ شباط من العام 2011.
عادل محفوظ- السفير اللبنانية-