كان الحادي عشر من أيلول 2001 يوماً هادئاً في واشنطن. كنت أقود سيارتي إلى العمل. توقفت عند إشارة حمراء ولاحظت أن امرأة في الحارة المجاورة تناديني بعصبية داعية إياي لفتح نافذة سيارتي. وعندما فعلت صاحت قائلة «هل سمعت ما حدث؟ ثمة طائرة ارتطمت بمركز التجارة العالمي. والدي يعمل هناك!». ثم تغيرت الإشارة إلى اللون الأخضر وتابعت قيادة سيارتي، ولم أرها مرة أخرى. لكني لا أظن أنني قادر على نسيان الخوف الذي ظهر واضحاً في عينيها. ولطالما تساءلت: هل كان والدها من بين الآف من قضوا في مشهد الرعب في ذلك اليوم؟ وصلت إلى مكتبي يومها «في الوقت المناسب» كي أتابع مشهد ارتطام الطائرة الثانية بالبرج، وقد أصبح واضحاً أن الأمر لم يكن حادثاً عارضاً، بل هجوم مدبر، وبدأ الكابوس يكبر منذ تلك اللحظة!
في خضم الأحداث المتتابعة وتواليها، طُلب من ابنتي التي كانت تعمل في مقرٍ يقع على مقربة من البنتاغون إخلاء المكان. عندما اتصلت بي كانت مرعوبة. قبل ذلك، وصل أفراد الشرطة إلى مقر عملي الذي كان على بعد شارعين فقط من البيت الأبيض، وطلبوا مني المغادرة لأن المنطقة بأسرها مطوقة. ولأني كنت أتلقى اتصالات من أميركيين عرب من أنحاء البلاد يطلبون المشورة والمساعدة، فقد طلبت من الشرطة السماح لي بالبقاء، فتركوني.
في اليوم التالي، وصلت إلى مكتبي وأخذت أراجع الرسائل الهاتفية التي تُركت خلال الليل. وكان بينها تهديد بالقتل نصه: «جيم.. كل العرب يجب أن يموتوا. سأقتلع حنجرتك وأقتل أبناءك». لم يكن ذلك التهديد الأول الذي أتلقاه، وكذلك لم يكن الأخير (هدد ثلاثة أشخاص حياتي بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، من بينهم ذلك المتصل، وقد عثر عليهم مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووجّهت إليهم تهم وتمت مقاضاتهم من قبل وزارة العدل، وأدينوا وسجنوا لفترة من الوقت بسبب تلك التهديدات). لم أكن وحدي على هذه الحال. فكثير من الأميركيين من أصول عربية واجهوا حملة تهديدات مرعبة لم يتورع بعض القائمين بها عن استخدام العنف. ومنهم من تعرض للقتل خلال الأحداث التي أعقبت هجمات الحادي عشر من أيلول.
بعد شهر من الهجمات، دُعيت للإدلاء بشهادتي أمام اللجنة الأميركية للحقوق المدنية. وكان مكتبي قد أعدّ مجموعة مفصلة حول حوادث العنف والتهديدات التي وقعت في أيلول من ذلك العام. وقد تحدثت عن قصص تفصح عن كراهية مخيفة نجمت عن الاعتداءات تلك.
عندما أستحضر تلك الفترة، أجد أن التهديدات بحد ذاتها لم تكن أكثر ما يقلقني، بل ما كان يقضّ مضجعي هو أنها فصلتنا عن سائر مواطنينا. فكما بقية الأميركيين، شعرنا بألم فقدان كثير من الأبرياء. أتذكر متابعة المشاهد المأساوية على قناة «سي إن إن»، التي أظهرت جموعاً من سكان نيويورك وهم يقفون أمام الحواجز التي تفصلهم عن «غراوند زيرو». كثير منهم كان يحمل صور أحبائه الذين كانوا في البرجين، مذيّلة بعبارة «مفقودون»، على أمل أن تكون صحيحة بدلاً من كلمة «متوفون»، الحاسمة.
كبقية الأميركيين أيضاً تضررنا واحتجنا بعض الوقت كي نستجمع قوانا ونهدأ ونتعافى. ولأنه تم رفضنا ووُجهت إلينا تهديدات تزعم أننا لسنا جزءاً من هذه البلاد، شعرنا بالإقصاء واضطررنا إلى توخي الحذر وطلب الحماية.
ومن حسن الحظ أن الحماية كانت موجودة، مثلها مثل الأفعال الطيبة، سواء قلّت أو كثرت. لقد اتصل عدد من أعضاء مجلس الشيوخ لتقديم الدعم. واستضافت الكثير من المنظمات فعاليات للتضامن. كانت المبادرات الطيبة محل تقدير، لكننا شعرنا أيضاً أنها لم تكن مستحقة، تمــــاماً مثل التهديدات. فنحن لم نفعل شيئاً لكي نكون موضع كره، ولا لكي نحظى بمشاعر الحب.
عندما أفكر بما خسرناه في ذلك اليوم وما تلاه، أتذكر كمّاً هائلاً من الأمور. فبدلاً من بناء موجة من التأييد الدولي لبلدنا، خسرت إدارة بوش بسبب قيادتنا بقدر كبير من الغطرسة في حربين كارثيتين، كلفتا الولايات المتحدة الغالي والنفيس، ودمّرت إحداهما العراق وشعبه، وأضعفت الجيش الأميركي، وقوضت هيبتنا في أنحاء العالم.
لا تزال ندوب حرب العراق تعيش معنا، ليس أقلها تلك الناتجة عما معدّله اثنان وعشرون جندياً سابقاً ينتحرون بصورة يومية. ولا يزال الضرر الذي وقع للدستور الأميركي موجوداً، وهو ينمو بشكل خطير، في ضوء غياب قيادة سياسية لديها الشجاعة للكشف عن الممارسات التي اتُّبعت في أعقاب الحادي عشر من أيلول، التي لم تجعل الولايات المتحدة أكثر أماناً.
جيمس زغبي- السفير اللبنانية-