لا تحتاج المملكة العربية السعودية إلى من يدافع عنها، فتجاربها السياسية الخارجية التي خاضتها في قرابة 100 عام كافية تماماً للتعبير عنها، وجعلها كياناً سياسياً استراتيجياً لا يستهان به، ليس فقط على المستوى العربي بل والعالمي أيضاً، وهذا ما أدركته الولايات المتحدة ومن ورائها أوروبا منذ وقت مبكر، وتحديداً بعد تدفق النفط، وراحت تبني علاقاتها الاقتصادية الاستراتيجية وفق هذا التحول، لم يكن النفط وحده الذي وضع لها هذه المكانة فحسب، بل مجموعة من اعتبارات ومفاهيم ذات أبعاد مركبة من حزمة موروثات ذهنية ومكتسبات جغرافية، هاتان الوحدتان الرئيستان اللتان أكسبتاها منعة طبيعية حقيقة.
إذاً، المسألة لا تتعلق بالكيان السياسي ولا حتى الاقتصادي، بل بأبعادها الاجتماعية والثقافية والدينية، لذلك يلزم عند التعاطي معها التماس رؤية عاقلة ومستبصرة، إذ لم تعد الجزيرة العربية مجموعة من الوحدات المعزول بعضها عن بعض، إذ باتت بعد توحيدها متسقة في منظومة مشكلة من الدين والأعراف والعادات والتقاليد، فالتعامل معها خارج نطاق العقل أشبه ما يكون بنقل حجارة ثقيلة من أعلى سفح جبل، مجرد التفكير في تحريكها يحتاج إلى وضع مجموعة من الاعتبارات المصيرية. «أميركيو اليوم» يتجاهلون حقيقة مفادها أن السعوديين متدينون بطبيعتهم وما زالوا يقيسون عمق ولائهم لحكامهم بمدى تمسكهم بهذا الدين وتشريعاته، لذلك بدت المسافة التي يحتاجونها لقبول كل المتغيرات طويلة جداً، تحملت الدولة تبعات كل مراحل التغيير حتى استطاعت بالتعليم تخطي كثير من العقبات المسكونة بالمخاوف والحساسيات المفرطة، سواءً من داخل الرواق الديني أم الاجتماعي المسكون بالأعراف والتقاليد، المهم أن ثمة تغيير وإن بدت خطوات التغيير بطيئة فإنه يعود إلى هذه الطبيعة المجتمعية الحذرة من التغيير المفاجئ أو السريع، ومع هذا فإنها اليوم تشهد نهضة حضارية عظيمة تفصح عن أرقام مالية مهولة صرفت لتأسيس البنية التحتية لدولة مترامية الأطراف، ما بين سهل ووعر، ثم استكملت البناء المادي والإنساني ليتماهى المجتمع في وعي وإدراك ينأى به عن الانجذاب إلى أي دعوات مضللة وهذا ما تؤكده الأحداث الإرهابية الأخيرة، إذ انضوى المجتمع السعودي بكل أطيافه إلى كيان الدولة الموحد، فلمَ هذا الإصرار الأميركي بوضع السعودية في خانة الإرهاب، هل لأنها لم تتماشَ مع رؤيتها للحرية، أم أنها لم تعسف الناس على الحرية بمقاييس أميركية؟ ألهذا تريد منها التخلي فوراً عن تطبيق الشريعة الإسلامية، تلك التي تنحصر في أذهانهم بتطبيق حكومة الإعدام بالسيف؟ واستبدال كل تشريعات الأحوال الشخصية بأنظمة على المقاس الذي يفهمونه بغض النظر عن قبول الناس لها من عدمه؟ وهل هذا كافٍ لأن يصم الكونغرس الأميركي السعودية بالإرهاب وتحميلها وزر أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر)؟ فهل غاب عن أذهانهم أن السعودية ليست كأي دولة هشة يسهل اختراقها لا من الداخل ولا من الخارج، فهي ليست عراق صدام حسين، ولا ليبيا القذافي، ولا سورية الأسد، ولا إيران الشاه، هي بلاد الحرمين قبلة المسلمين في أصقاع العالم، الحرمان اللذان أصبحا بفضل الله ثم بفضل رعاية حكامها لهما قادرين على استيعاب ملايين الحجاج والزائرين بلا أدنى تعب أو وصب، صرف من أجل تحقيق ذلك ولا يزال بلايين الريالات، فهل يدرك الكونغرس الأميركي هذه الحقائق! أم أنه يتجاهلها ظناً منه أنه سيمرر قانونه بمقاضاة السعودية على «الـ11 من سبتمبر»، وكأنها ضالعة بهذا الهجوم أو مدبرة له.
لن تنطلي هذه الحيلة على السعودية التي اكتوت هي نفسها بويلات الإرهاب منذ ثمانينات القرن الماضي، والكونغرس يتجاهل حقائق التاريخ ويعمي بصره عن حقائق أخرى لا يمكن إنكارها أو حتى تجاهلها، ألا يحق لملايين اليابانيين مقاضاة أميركا على قنبلتي ناجازاكي وهيروشيما؟ ماذا فعل الاجتياح الأميركي بفيتنام! ألا يستحقون تعويضات أميركية تدفع لهم جراء التدمير والخراب الذي لحق بهم؟ ثم ماذا عن العمليات الأميركية في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا، ألا يحق لأهالي الضحايا رفع قضايا على وزارة الدفاع الأميركية؟ ماذا عن معتقل غوانتانامو أكبر فضيحة تاريخية، ألا يحق للسعودية والكويت مقاضاة الولايات المتحدة عن الشباب الذين لقوا حتفهم تحت هراوات التعذيب؟ هل تدخلت السعودية يوماً ما في خصوصيات المجتمع الأميركي، هل نصبت نفسها محامياً أو مدافعاً عن أقلياتها وسياسات التمييز العنصري التي تشهدها بين الفينة والأخرى، كما تفعل أميركا «ادعاءً» أنها حامية للإنسانية والشعوب، لتوجد لنفسها ولشعوبها مبرراً كافياً لسحقها وتدميرها، فقط من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
الشعب الأميركي لم يسأل نفسه يوماً، هل لقمة عيشه نظيفة أم أنها ملوثة بدماء أبرياء؟! لم نقتنع بعد أن أميركا تقصف دول الشرق الأوسط من أجل أعين العرب والمسلمين، لم تكن خطابات بوش الابن ولا حتى أوباما كافية لإقناعنا أن أميركا رافعة للواء السلام في العالم، كل ما هنالك أن سياستها الخارجية «قذرة» بما يكفي لوصفها بالشيطان الذي يلعب على كل الحبال. المهم أن تعي جيداً أنها لن تستطيع ملاعبة السعودية بها مهما لوحت بها سلماً أو حرباً، ليس لأن السعودية هي الأقوى عدةً وعتاداً، وليس لأنها تريد أن تنقض على مصالحها مع أصدقائها، بوضوح أكثر لأن السعودية في قلب العالم ذات معنى مختلف. لو سئل الرئيس أوباما عنها لأخبر عن صديقه القديم رفيق الشباز الذي كان رئيساً لإحدى العصابات، ولم ينقذه من الموت المحتوم سوى اعتناقه الإسلام، الذي حوله من كونه مجرماً إلى فيلسوف شبهه أوباما في مذكراته بتوماس هوبز، باتت ارتباطات رفيق واضحة المعالم من أهمها المسجد.
محمد المزيني- الحياة السعودية-