صدر كما كان متوقعًا قانون جستا، ثم تبع ذلك إبطال اعتراض الرئيس عليه بأغلبية ساحقة لافتة للنظر؛ ما يشكل سابقة في التصويت على التشريعات القضائية، ربما في تاريخ الكونجرس. وكالعادة، كانت ردود أفعالنا تتراوح بين الإنكار، والتهجم على الإدارة الأمريكية، والتشكيك في نوايا أمريكا تجاهنا في «منولوجات» لا تتوقف، لا يسمعها إلا نحن، بل إن بعضنا اعتقد أن القانون لا يعنينا، وأنه قانون عام، وأن شعوب الأرض ستحاكم أمريكا أمام محاكمها الداخلية، أو أمام المحاكم الأمريكية ذاتها، وأن أمريكا هي المتضرر الأول من القرار.
القانون يستهدف السعودية، وقصد به أحداث 11 سبتمبر بالتحديد. والإجماع في التصويت، وموقف الإدارة المتراخي، واحتفاء الإعلام به، وتصعيد الهجوم على المملكة قبل إصداره، هي الوقائع الحقيقية التي يجب أن تساعدنا على فهم القرار وما وراء القرار. الإدارة الأمريكية حذّرت من تبعات القرار فيما بعد، وقرر الكونجرس إعادة النظر في «بعض جوانب تطبيقه»؛ ليحقق أهدافه دونما إضرار بالمصالح الأمريكية، أي حصره في الملاحقة القضائية للمملكة فقط، وهذا لا يشكل تراجعًا عنه، ولكن دعمًا له. وسبق أن كتبت قبل أسبوع أن القرار سياسي وإعلامي بالدرجة الأولى، ولا علاقة له بتعويض فئات من الشعب الأمريكي، حُرِّكت بقدرة قادر قبيل التصويت على القرار، وبعضهم بمعيار الوعي الأمريكي السياسي لا يعرف عن هذه الأحداث شيئًا. وإذا أردنا فهم الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية فعلينا القراءة ما «بين السطور» لما يكتب عنها في الصحف الأمريكية.
ثقة غالبية الشعب الأمريكي في سياسة حكومتها داخلية أو خارجية تكاد تقترب من درجة الصفر. والعلاقة بين الدولة والشعب بطوائفه كافة ليست على ما يرام، والدولة في أمريكا تعتمد على الشرطة والحلول الأمنية أكثر من أي وقت مضى؛ لذا فلا يمكن أن يكون القرار أتى بضغط شعبي، وإنما بإرادة سياسية بحتة، وتم توقيته في ذكرى الحدث نفسها. وحسب الواشنطن بوست ليوم 29 سبتمبر، فإن الكونجرس استدرك وأصابته كما ذكرت «إفاقة المشتري المستعجل». وقد يعيد الكونجرس النظر في القرار، لا ليلغيه، ولكن ليسد الثغرات فيه التي يمكن أن تضر أمريكا مستقبلاً. والأضرار التي أبرزتها الإدارة متأخرة جدًّا للكونجرس هي أضرار اقتصادية وسياسية، تتعلق بالتعاون فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، وقصد به تحالف المملكة مع أمريكا في المنطقة. ولكنه أيضًا قد يفتح الباب أمام مقاضاة الحكومة الأمريكية نفسها من قِبل شعبها بسبب سياساتها الداخلية والخارجية الخاطئة، ولاسيما أن القرار خلا من تحديد أي صلاحيات زمنية أو مكانية أو اعتبارية للقرار. ومعروف أن القضاء الأمريكي يعتمد على نظام المحلفين وليس على تقدير القضاة فقط.
ركزنا على طلب 28 عضوًا من الكونجرس إعادة النظر في القرار، وتناسينا ما هو أهم مما نوهت عنه صحف مثل الواشنطن بوست عن القرار، مثل تساؤلها حول حصول القرار بسرعة على هذه الأغلبية الساحقة؛ إذ ترى الصحيفة أن «الصورة السلبية للمملكة» لدى المشرعين الأمريكيين أسهمت كثيرًا في إجماع المجلسين النيابيين عليه رغم فيتو الرئيس، والتسرع في القرار دونما نقاش يُذكر. وهذا ما يجب أن يعنينا أكثر من القرار نفسه. وسبق أن كتبت كثيرًا عن خطورة استمرار صورتنا الإعلامية الخارجية السلبية بشكل يشكل خطرًا علينا. فأحيانًا تُتخذ القرارات كُرهًا لعُمَر لا حُبًّا لزيد. وإعلامنا أحيانًا يركز على الحملات الإعلامية المضادة داخليًّا فقط بشكل استنكاري، ويتجاهل ما هو أهم، وهو دوافع السياسات لا محتواها. ولا شك أن هناك جهدًا خارجيًّا كبيرًا يُبذل ويعتمد على استمالة بعض شركات التسويق أو بعض السياسيين في أمريكا للدفاع عن مواقفنا، ولكن هذه لها أعراض جانبية خطيرة. فعندما يُدفع المال لأشخاص بعينهم فإنه يثير غيرة وحسد الغالبية من الآخرين. وأعتقد أنه آن الأوان أن ندرس بشكل علمي وحيادي الأسباب الحقيقية لتدهور صورتنا الإعلامية في الخارج، وأن نعمل بشكل مهني ومنهجي على تغييرها.
د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف- الجزيرة السعودية-