من يعتقد أن العلاقات السياسية بين دولة ودولة ستستمر إلى الأبد فهو ساذج؛ ذلك أن تلك العلاقة محكومة بتغير المصالح والأهداف.
كانت المصالح الأمريكية تقتضي توثيق العلاقة مع بلادنا ؛ طمعاً في الحصول على مكاسب اقتصادية عالية بسبب وجود البترول والاتفاقات التجارية والاستثمارية التي عقدت بين الدولتين وما تنامى في ظلالها من تعاون علمي وتجاري وعسكري كبير على مدى سبعين عاما .
ولكن مصلحة تدفق البترول والاستثمار فيه تكاد توشك على الأفول بعد أن اكتشف البترول الصخري في أمريكا، وأصبحت تنتج منه ما يزيد على عشرة ملايين برميل في اليوم على الرغم من التكلفة العالية في إنتاجه، ولكن التقدم العلمي السريع في مجال صناعة البترول ربما يعجل بتقليل هذه التكلفة المالية ، وقد صرح الرئيس الأمريكي أوباما قبل سنة تقريبا في تفاؤل كبير وبشفافية عالية ودون مواربة أو حتى مراعاة للعلاقة السعودية الأمريكية القديمة أن أمريكا ستستغني عن البترول السعودي مطلقا بعد سنة من الآن ؛ أي في عام 2017م.
وهنا مربط الفرس ، والسر في تأخر المحاكم الأمريكية في إكمال بقية تبعات آثار مسلسل 11 سبتمبر ، وهو ما يجيب على سؤال قد يرد على الأذهان : لِم لَم تستعجل القيادة الأمريكية وتسرع من وتيرة تصعيد الأمور وتوتير العلاقة بين الغرب والشرق ، أو بين العرب والغرب، أو بين الإسلام والنصرانية، أو بين الحضارة الإسلامية التي ليس لها وجود الآن إلا قيما وتعاليم وتراثا وتاريخا يعيش في الكتب وتتغنى به الألسن وتبتهج به القلوب والحضارة الغربية المتسيدة المتغلبة المستأسدة التي تدعس بتفوقها العلمي وبدمويتها واستبدادها العسكري وتوحدها الأطلسي على من يرفع رأسه منافساً أو مزاحماً أو متطلعاً إلى موضع قدم في سباق الحضارات !
لقد أجلت أمريكا فتح ملف آثار 11 سبتمبر ورفع مشجب التعويضات لعوائل الضحايا كأثر متوقع بعد الحادث المأساوي على أن تجد لها بديلاً عن بترول الخليج الذي تنوي أن تقلب لأهله ظهر المجن وتبدأ في تنفيذ الخطوات المرسومة سلفا ضمن حلقات متسلسلة في مؤامرة تفتيت المنطقة العربية والإسلامية .
إنها قمة «البراجاماتية» في الأخلاق الأمريكية .
ونعترف نحن العرب أننا مهما بلغ السياسيون فينا من مقدرة على الكر والفر في العلاقات السياسية ، ومهما أعلوا من وتيرة تغليب «المصالح» على «الأخلاق والمواثيق وقيم الصداقة» إلا أننا لا نستطيع أن نتخلى بالمطلق عن شيم وقيم العلاقة الطيبة والود القديم والصلة الحسنة ومواقف الاحترام التي وسمت العلاقة القديمة بيننا وأية دولة أو أي شعب أو أي إنسان.
ومهما قلنا أو آمنا بأن السياسة لا خلاق لها ولا أخلاق فيها ؛ إلا أننا نحن العرب يبقى فينا أو ربما هو تكويننا الجيني شيء من الأخلاق يرعى قيم الصداقة والعلاقة والتاريخ الجميل الذي كان، حتى ولو كان مكذوبا من الطرف الآخر أو سار وفق مسرحية طويلة هادئة أو تمثيلية محكمة الأدوار مرسومة النهايات والنتائج .
لقد سارت السياسة الأمريكية - مع الأسف - وفق سيناريو المسرحية الكاذبة التي قد تنتهي مشاهدها فجأة في أي وقت وبدون مقدمات إذا تحقق هدف المسرحية عند المشهد الأول أو الخامس أو العاشر ، المهم أن يستمر العرض الكاذب على المسرح ويصفق الجمهور المتفرج الساذج الذي انطلت عليه مشاهد المسرحية التراجيدية والكوميدية في آن معا، وقد يغلق الستار فجأة بعد أن يرى كاتب السيناريو أن اللعبة انتهت والهدف قد تحقق!
لقد انتهت فيما يبدو اللعبة السياسية ، أو مسرحية الصداقة العميقة التي استمرت سبعة عقود بنهاية المصالح المتوخاة وظهر فجأة محل العرض اللطيف السابق الذي استمر سبعين عاماً عرض آخر متوحش صلف كاره متوعد منتقم شاتم منقلب من النقيض إلى النقيض!
لا أقول إننا نحن العرب استسلمنا لطيبتنا، أو انقدنا وفق أخلاقنا، أو قادتنا جيناتنا المجبولة على الوفاء والاحترام وانتظار الجميل ممن يظهر وداً أو يرفع شعار صداقة فحسب، أو أن سلوكنا السياسي في هذا الشأن كان قاصراً ؛ لا ، فنحن على صواب، ونسلك سبيل الحق والرشد واحترام علاقات الحضارات والشعوب، ومهما انقلب غيرنا على هذه المعاني وتنكب على هذه الأعراف الإنسانية؛ فإن هذا شأنه وكل يعود إلى أصله ومنبته ودوافعه الخيرة أو الشريرة.
نحن الآن مع أمريكا على مفترق طرق ؛ فإما أن نحطم معاً ما وضع وصنع من عثرات وما رسم بأيد صهيومجوسية من مخطط قذر سيشعل الرعب والخراب في العالم ، أو أن نضع أمريكا خلف ظهورنا ونصنع أنفسنا ونبني ذواتنا أولاً ثم نبدأ في رسم تكوين علاقات دولية وحضارية جديدة أكثر منفعة وأدوم صلة وأعمق رؤية تقوم على التكامل لا التضاد والاختلاف مع الاحترام، لا على الخلاف والكراهية والعداء المبطن للحضارات والثقافات والأديان.
د. محمد عبدالله العوين- الجزيرة السعودية-