العلاقات السعودية الأمريكية تميزت بأنها علاقات استراتيجية ومتزنة حتى وإن مرت بكثير من الأحداث والقضايا، كان لقيادة هذه البلاد مواقف مشرفة في إدارة كل الأزمات. ولكن في الآونة الأخيرة لاحظنا أن قوة المملكة ومكانتها الإقليمية والدولية وتأثيرها السياسي والاقتصادي يمر بعراقيل متعمدة لإبطاء هذه القفزات النوعية، عليه يجب أن نتوقع "جاستا" وغيره، لأن الاتجاه الرأسمالي الأمريكي يعد التحولات المادية غير المربحة له، تحولات يجب محاربتها بكل السبل. لذلك ينبغي الحد من تهديد قانون جاستا على صادرات النفط السعودي سواء طبق القانون أم لم يطبق، فهذه فرصة مناسبة لكي نعيد ترتيب تعاملاتنا مع أمريكا المرتبطة بإستثماراتنا وصادراتنا النفطية المرتبطة بالدولار الأمريكي، وأعتقد أن التحرك المناسب للمملكة يجب أن يبدأ على المستوى الشعبي ممثلا في مجلس الشورى لرفع التوصيات اللازمة للمقام السامي ومجلس الوزراء بمذكرة رسمية. ويجب أن يُغطى هذا الحدث إعلاميا مع تغطية محلية ودولية وتتناقله وكالات الأنباء على مستوى واسع.
أمريكا قوة لا يسع أحد اليوم تجاهلها فهي رقم صعب في أية معادلة دولية مهما كانت، لذلك أرى أن محاولة الدفع نحو أي تحرك معها غير مدروس قد تكون له عواقب لا تخدمنا على المدى البعيد، حتى وإن أرضت تلك الانفعالات بعض التوجهات العاطفية التي تدفع نحو الكيل بالمكيال نفسه.
ونحمد الله أن رزق هذه البلاد قيادة حكيمة ومتزنة تدرك مصالح البلاد والعباد وتتحرك وفق المكانة العظيمة للمملكة في العالم بما يخدم شعبها والقضايا العربية والإسلامية العادلة، وعلاقة المملكة بالولايات المتحدة الأمريكية علاقة تاريخية واستراتيجية قوية تعتمد على المصالح المشتركة للبلدين الصديقين والاحترام المتبادل، وقد مرت هذه العلاقة بالكثير من الأحداث والقضايا، وقد كانت لقيادة هذه البلاد مواقف مشرفة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء في إدارة كل الأزمات التي مرت بها الأمة على مدى عشرة عقود.
وأعتقد أن التحرك المناسب للمملكة بعد الأحداث الأخيرة والتوتر في العلاقات بين البلدين يجب أن يبدأ على المستوى الشعبي ممثلا في مجلس الشورى الموقر لعمل الخطوات الآتية ورفع التوصيات اللازمة للمقام السامي ومجلس الوزراء بمذكرة رسمية تشمل التالي:
أولا: جمع أكبر قدر من المعلومات حول القانون وتداعياته المتوقعة، وكيف يمكن توظيفه بحيث تضمن المملكة حكومة وشعبا أسلم المسالك لدفع أي ضرر متوقع مع تحقيق أكبر قدر من المصالح ممكن.. وفي بلادنا من القدرات ما يثلج الصدر من الكفاءات القانونية والسياسية والاقتصادية للتعامل المناسب مع كل المتغيرات المتوقعة.
ثانيا: تشكيل لجنة من خبراء الاقتصاد والطاقة السعوديين لدراسة التحرك اللازم المضاد لما قد ينتج عن قانون جاستا كي نحافظ على موارد المملكة المالية وأصولها في أمريكا.
ثالثا: دراسة تحويل الموارد المالية والاستثمارات السعودية الموجودة في الولايات المتحدة إلى بدائل أخرى.
رابعا: دراسة تحويل عائدات النفط السعودي من البنوك الأمريكية إلى بدائل أخرى.
خامسا: دراسة وضع قوانين مشابهة تسمح للمواطن السعودي بمعاملة أمريكا حكومة وشعبا معاملة بالمثل.
سادسا: المطالبة بالإفصاح عن الاستثمارات الأمريكية في السعودية ومعرفة وضعها وتحديد مستقبلها.
وبعد رفع المذكرة من قبل مجلس الشورى، يجب أن يغطى الحدث إعلاميا بشكل كبير ليأخذ حقه من التغطية المحلية والدولية وتتناقله وكالات الأنباء على مستوى واسع وذلك لعمل الضغط النفسي داخل الأوساط الرسمية والإعلامية والشعبية داخل الولايات المتحدة، وذلك يضاف لما قام به البرلمان الأوروبي في الرسالة التي بعثها للحكومة الأمريكية بتوضيح أبعاد ومخاطر قانون جاستا.
وبعد ذلك يمكن للمملكة أن ترصد وتراقب الموقف الرسمي والشعبي الأمريكي وانتظار ردة الفعل التي أعتقد بأنها سوف تكون إيجابية ولمصلحة البلدين بحيث أنه من المتوقع أن تسعى أمريكا للمناورة والمفاوضة لكيلا تخسر اقتصاديا ولكيلا تزيد البطالة والركود الاقتصادي الداخلي بما يجعلها مجبورة للعودة إلى مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مع المملكة.
وبقيام مجلس الشورى بهذه الأدوار، سيضمن لنا قدرا كافيا من الضغط الذي سيحقق الوصول إلى نتائج مباشرة تتيح للقيادة دراسة ردود الفعل وتبني موقف حكيم ومتزن كما هو ديدن حكومتنا الرشيدة.
فقانون جاستا المتناقض الذي يجعل من الخصم خصما وحكما، ولعله القانون الأول الذي يولد متهما وبحاجة إلى محامي دفاع ليثبت براءته، وعلى أية حال هو ليس بدعا من الأحداث ولا نهاية للعالم، بل هو خطوة، قد سبقها من الإرهاصات ما يدل على قدومها، فهي من هذه الناحية ليست مفاجئة لمراكز القرار في المملكة، وما دار حولها من تجاذبات بين الرئيس الأمريكي والكونجرس محل متابعة ورصد وتحليل، فالأمر لا يعدو كونه واحدة من تلك المناورات السياسية التي تنفذها أمريكا وتجمع حولها هالة عظيمة لتحقيق أكبر قدر من الأهداف التي من أجلها تبنتها وحاكت خيوط لعبتها.
أمريكا دولة لها مصالحها وتقوم بخدمتها، والمملكة لها مصالحها أيضا، أمريكا تسعى لتحقيق مصالحها بطرق مختلفة مستعينة بوسائلها، والسعودية مرتبطة بمصالح تحققها عبر وسائلها التي من أولها تمسكها بدينها، وقوة العلاقة بين قيادة البلاد وشعبها، والسعودية كدولة عريقة خاضت الكثير من التجارب فراكمت خبرات من كل نوع للتعامل مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.
مما يجب استحضاره أن الخطوات التي قامت السعودية بتبني التحول الوطني و"الرؤية 2030" التي ستقلب الكثير من المعادلات الاقتصادية ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم أجمع، لن تمر دون عراقيل متعمدة ومحاولات مستميتة لإبطاء هذه القفزات النوعية، عليه يجب أن نتوقع "جاستا" وغير "جاستا" فهو ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير.. لذلك أرى أن بعض الكتابات المتوترة التي ترى أننا في أزمة عظيمة هي أضر على مجتمعنا من قرارات أمريكا وغيرها، فهلا تنبهنا لذلك! يجب أن يكون لنا قاموس تخاطب ينبع من أصول ديننا الحنيف، وقوة لحمتنا ووضوح سياساتنا.
فيا سادة اربأوا بأنفسكم، وثقوا بأن الأمر سيقوم عليه أهله بعد دراسته ومعرفة كل ما حوله من مصالح ومحاذير، فأمريكا تسعى هي بنفسها لفكاك رأسها من تبعات هذه الخطوة غير الموفقة، فقانون "جاستا" سيفتح على أمريكا أبواب جهنم، وسيكون سببا لإدانتها بكثير من القضايا في كثير من دول العالم، فهذا القانون - إن صح تسميته بقانون - سيضر بأمريكا أكثر من غيرها، لما لهذا القانون من آثار كارثية مدمرة على الاقتصاد الأمريكي والسياسة الأمريكية... فالاتجاه الرأسمالي الذي تتزعم أمريكا زمرته يعتبر التحولات المادية غير المربحة له، تحولات يجب محاربتها بكل السبل.
أمريكا كقوة عظمى، لا يمكن أن تتخذ خطوة تحرمها مما يقارب تريليون دولار من الاستثمارات المالية السعودية، والصناديق السيادية، وكيف تقدم على ما يجعلها الأكثر عرضة لخطر هذا الانقلاب على الحصانة السيادية، وليس هذا فحسب، بل سيستفيد من هذا التحول المنافسون فهم في تأهب لاستثمار مثل هذه الحماقات فها هي روسيا، الصين، والاتحاد الأوروبي وغيرهم، أوعية ومحاضن اقتصادية جاهزة في حالة أن تسحب المملكة مليارات الدولارات من الاقتصاد الأمريكي..
وليس هذا فحسب، بل الأمر مضاعف فعندما تستخدم المملكة أقرب ورقة لديها وهي مكانتها الإقليمية بعقد اتفاقيات مع الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي بتقليص التعاون الاقتصادي والعمل على ضرب القيود على الاستثمارات مع أمريكا كخطوة أولية، وماذا لو سعت المملكة بما لها من مكانة لا يجهلها أحد في العالم الإسلامي في بناء توجه إسلامي لمقاطعة المنتجات الأمريكية والعمل على إيجاد نوع من المقاطعة الاقتصادية والعزلة السياسية.
هذه أمثلة للاستجابات البدهية فقط وإلا فما يمكن للمملكة أن تحدثه في هذا المضمار كثير ومثير ومؤثر للغاية، فمنه ما يمكن أن يكون مفاجآت غير سعيدة للاقتصاد الأمريكي المدان والعدالة الأمريكية المزعومة.
ومما لا يمكن إغفاله أن المملكة وكأكبر الدول المصدرة للنفط في العالم ومعها أكبر اقتصادات في منطقة الخليج، لديها قائمة - تبارك الله - لا منتهية من العملاء وأصحاب المصالح المشتركة في جميع قارات العالم ومع جميع المستويات من دول نامية إلى صناعية عظمى إلى القوة الاقتصادية القادمة في إفريقيا.
ماذا لو تبنت المملكة الاستراتيجية الأمريكية نفسها ببناء تحالفات فورية مع خصوم أمريكا في كل المجالات الحيوية وفي العالم أجمع وهم كثر، خصوصا في هذه الآونة التي باتت أمريكا تنتهج الكثير من السياسيات الرعناء مع الكثير من الشعوب.
هذا وينبغي أن يكون واضحا عند أمريكا وبقية العالم: أن تغيير السياسة الأمريكية مع حليفها الإقليمي الجديد في المنطقة الذي أمنت له الاتفاق النووي بعد أن جمدت أرصدته لسنوات مع الحصار الاقتصادي الذي تحاول الآن تمريره بأجندات مختلفة إلى غير المكشوف وغير الخافي على أحد خصوصا أن مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي والخزانة، يرحبان بالضغط الحاصل على الدولار، لاستيعاب ما يمكن أن تبيع من السندات المالية.
طبعا بعض مصادر القرار في أمريكا لديها قناعة أننا نتوقع أن توقيت هذا القرار إنما جاء به الوقت أو المصادفة فقط، وأما واقع الحال فإننا نعلم تماما أن هذه الخطوة المتخبطة من القيادة الأمريكية جاءت بتوقيت مدروس ليتزامن مع أهم الخطوات التاريخية لبلادنا وهي أول الخطوات الطموحة في تنفيذ مخططات "الرؤية 2030"، التي تهدف إلى تحويل اقتصاد المملكة من اقتصاد يستند فقط إلى عائدات النفط إلى واحد من أكثر اقتصاديات العالم تنوعا وقاعدة صناعية وقوة، وكنتيجة مباشرة لهذا التوجه بدأت قاعدة التعاملات الاقتصادية السعودية باستهداف شركاء وأسواق جدد، وبناء تحالفات في كل القارات، ولعل الجميع تابع الرحلات المكوكية للقيادات السعودية في الفترة القريبة الماضية وما نتج عنها من قفزات في بناء علاقات اقتصادية متينة مع جهات كثيرة... وهذا ما دفع الجشع الأمريكي والأنانية المفرطة من تقيؤ "جاستا" في هذه الفترة بالتحديد.
هذا الظرف فرصة مناسبة للغاية للحد من تأثير قانون جاستا على صناعة وتصدير النفط السعودي سواء استهدفت به السعودية أم لم تستهدف به، وسواء طبق القانون أم لم يطبق، وذلك بأن نقتلع كل الجذور الأمريكية المرتبطة بتصدير وبيع نفطنا.
وحتى لو استمر النفط في ارتباطه بالدولار فإن ذلك لا يعني أن نستمر باستخدام البنوك الأمريكية، ونسلم أغلى ما لدينا لتكون المكافأة بأسوأ ما لديهم، وكما نادينا في المقال السابق، لا بد لنا من الأخذ بزمام المبادرة بإنشاء خام قياسي خليجي، ليكون نفطا قياسيا يتداول وتتم به المضاربات المالية تفوق تلك المضاربات الغربية.. وبهذه الطريقة سنجعل الدولار الأمريكي هو الذي يتبعنا بتلك الإجراءات الاستباقية، ولنمهد مرحليا لربط الريال بسلة عملات بدل ارتباطه بالدولار الأمريكي.
وفي أسوأ الاحتمالات، لنتذكر جيدا أن لدينا خيارات أوسع من الخيارات الإيرانية التي تمكنت من بيع قرابة مليوني برميل يوميا رغم الحصار الاقتصادي وإيقاف حساباتها بالدولار، حيث كانت وجهتها نحو البنوك الصينية عندما كانت تبيع نفطها باليوان الصيني.
بقي أن نقول إنه لا يشك عاقل بأن أمريكا وعبر تحركات سبقت هذا القانون، التي كان منها دعمهم ملالي طهران، قد قلبوا لحلفاء الأمس ظهر المجن، وقد كان ما تابعتم من الخطوات الجادة من قيادات المملكة عبر كل قارات العالم ما أربك أمريكا فقامت وكردة فعل غير متزنة بسن هذا القانون في محاولة مكشوفة لثني المملكة عن السير في تنفيذ خططها نحو التحول الوطني وصرف النظر عن أي إجراءات عملية نحو تطبيقات "رؤية المملكة 2030"، وهذا التصرف هو ما سيجعل من أمريكا عدوا سافرا لكل عقلاء العالم.
لتعلم أخي الكريم أن نزع الحصانة الدبلوماسية هو خطر على أمريكا أكثر من أية دولة أخرى، وأحداث أيلول (سبتمبر) مؤسفة حقا وقد أدانتها السعودية في حينها بما يكفي، فليحدثوا ما شاؤوا من القوانين فستكون عليهم حسرة لأنها ستؤلب عليهم الرأي الأمريكي الداخلي بسبب تبعاتها، حيث ستكون لهم قضايا بعددهم في كل زاوية من الكرة الأرضية، وأما نخن - بإذن الله - فماضون في طريقنا...
كيف يهدد بالعدالة من ينطلق من قول ربه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
الاقتصادية السعودية-