هدّد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، بنقل الودائع السعودية من البنوك الاميركية (750 مليار دولار) إذا نشرت واشنطن الصفحات الـ18 من تقرير هجمات 11 أيلول، التي تشير إلى تورط سعودي في هذه الهجمات. ردت واشنطن بأن الودائع هي بقيمة 500 مليار دولار، وبأنها لن تنشر هذه الصفحات
قامت المملكة، بسبب ما تعرضت له من هجوم واتهامات، وبهدف طمأنة حلفائها الغربيين في مرحلة ما بعد 11 أيلول، بإجراء سلسلة من الإصلاحات الدينية بين 2003 و2006، في عهد الملك الراحل عبدالله، شملت وضع برنامج وطني لمكافحة الإرهاب يستهدف المتطرّفين الدينيين، بتمويل مقدم إلى الأمم المتحدة بلغ ملايين الدولارات، وإنشاء مركز دولي للحوار بين الأديان، ومركز محلي للحوار الوطني، ومؤسسة مختلطة للتعليم العالي، ومركز وطني استشاري لمكافحة الإرهاب... إضافة إلى اتفاق غير رسمي جرى التوصل إليه في عام 2005 بين كبار المسؤولين الأميركيين والسعوديين لإصلاح الكتب المدرسية الدينية. وقد أدى ذلك كله إلى توقف التحريض ضد المملكة، خصوصاً أن الولايات المتحدة انشغلت بالحروب على أفغانستان والعراق ولبنان. لكن تهمة علاقة المملكة بهجمات 11 سبتمبر لم تختف تماماً من هذا الملف.
فوجئت المملكة بقانون يصدر بالأغلبية الساحقة عن الكونغرس بعنوان: «العدالة لرعاية الإرهاب» في نهاية شهر أيلول 2016، يتيح لعائلات ضحايا 11 أيلول مقاضاة ليس المتورطين في الإرهاب فقط بل ورعاتهم ايضاً. والمستهدف المباشر من هذا القانون هو السعودية.
أثار هذا القانون المفاجئ ضد أحد أهم حلفاء واشنطن التاريخيين منذ عقود في الشرق الأوسط الكثير من الاستغراب، ليس لدى القيادة السعودية فحسب، بل لدى الكثير من المحللين والمراقبين، لمعرفة إلى أين تتجه العلاقات السعودية الأميركية، وكيف سيتعامل الطرفان السعودي والأميركي مع هذا القانون؟ كذلك فإن أوباما وشخصيات أخرى في الادارة الاميركية حذّرت من إمكان تطبيق هذا القانون على الرعايا الاميركيين وعلى واشنطن نفسها.
لا شك في أن الكونغرس ومن فيه من خبراء ونواب وشيوخ عندما صوّتوا لمصلحة هذا القانون وضعوا في حسابهم احتمال تطبيقه على الولايات المتحدة نفسها. ولكن اعتقاد الكونغرس بأن بلادهم هي القوة التي لا يمكن لأحد أن يطالها قانونياً، حتى لو تجرأ على اتهامها برعاية الإرهاب، دفعهم إلى تجاوز مثل هذه المخاوف المحتملة التي أشار اليها الرئيس الاميركي لثنيهم عن التصويت على هذا القانون، والتي أشار اليها لاحقاً البيان السعودي بعد صدور القانون، والذي حذر من إضعاف الحصانة السيادية للدول، بما في ذلك الولايات المتحدة.
لم يصدر أي تحقيق أو أي تقرير قانوني أميركي، ولم تنشر حتى الصفحات الـ18 المزعومة من التحقيق حول 11 سبتمبر التي تبرر للكونغرس اتهام المملكة وصدور هذا القانون ضد «رعاة الارهاب».
إن القانون على الرغم من أنه يفتح باب مقاضاة السعودية واتهامها «برعاية الإرهاب» في هجمات 11 سبتمبر، إلا أنه في الوقت نفسه قانون عام يمكن أن يطبق على أي دولة أخرى في العالم مثل إيران أو سوريا أو روسيا أو الصين. وحتى حلفاء واشنطن لم يعودوا بمأمن، ولهذا انتقدت القرار تركيا ودول أوروبية عدة.
إذا كان معظم المتورطين في هجمات 11 سبتمبر من الجنسية السعودية، فهذا لا يعني تلقائياً مسؤولية رسمية سعودية عن هذه الهجمات. إلا إذا كشفت لنا الإدارة الأميركية ما توصلت إليه من تحقيقات حول مثل هذا التورط. عندئذ سيكون السؤال: لماذا صمتت واشنطن 15 سنة عن هذا التورط؟ ولماذا تنقلب عليه الآن؟
أما إذا لم تنشر التحقيقات التي تؤكد تورّط المملكة (من خلال مسؤولين أو أفراد من العائلة الحاكمة) في هذه الهجمات، فهذا يعني أن القانون هو افتراء وعملية ابتزاز وسطو على الأموال (مئات المليارات) التي أودعتها المملكة طوال عقود في البنوك الاميركية، بحيث لا يحتاج بعد ذلك أي مسؤول سعودي الى التهديد بنقلها. لم تشفع للمملكة عند الكونغرس سياساتها الإقليمية في سوريا واليمن والعراق وتجاه ايران، ودعمها العلني المالي والتسليحي للجماعات الإرهابية في سوريا بالتعاون مع الولايات المتحدة نفسها، الذي أعلن عنه وزيرا خارجيتها الراحل سعود الفيصل، والحالي عادل الجبير، وكذلك نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن الذي «اشتكى» من دعم حلفاء واشنطن للجماعات الارهابية وذكرها بالاسم، المملكة السعودية وتركيا والإمارات وقطر.
الخلاف مع الرياض حول سياساتها الإقليمية لا يعني تأييد أي قرار أو أي قانون يصدر من واشنطن ضد المملكة السعودية، لأن الجهة التي صدر عنها هذا القانون ليست الطرف النزيه الذي يدعم العدالة في العالم ويعمل من أجلها، بل هو طرف متورط أيضاً في دعم الارهاب والانقلابات والحصار الاقتصادي، في أماكن كثيرة من العالم، من إسرائيل الى كوبا والتشيلي، وروسيا وسوريا ولبنان وإيران، وغيرها الكثير. حتى هجمات 11 أيلول نفسها لا يزال الغموض يلف التحقيقات حولها، وكذلك الشكوك حول الجهات المتورطة. وقد كانت فضيحة مدوية، تكشف طبيعة العلاقة الأميركية مع الجماعات الإرهابية، أن يهدد المسؤولون الأميركيون روسيا بانتقال عمليات هذه الجماعات الى أراضيها إذا واصل الروس تدخلهم العسكري في حلب، بعد تعثر «اتفاق كيري ــ لافروف».
إن قانون «جاستا» ضد السعودية، «راعية الإرهاب»، يصدر ولا يزال التحالف الاستراتيجي قائماً بين الطرفين. ومن المعلوم أن المملكة كانت طوال عقود من هذا التحالف إلى جانب السياسات الاميركية من دون تردد. فوقفت ضد الاتحاد السوفياتي، وضد اليسار، وضد عبد الناصر، وضد إيران، وفتحت أبوابها للقواعد العسكرية الأميركية، وتعاونت معها في سوريا، وفي بلدان أخرى. وعلى الرغم من ذلك كله، يتعرض هذا الحليف اليوم للتهديد بقانون يمكن أن يسلبه ثروات ما فوق الأرض وما تحتها، ويمكن أن يقلق هذا الحليف لسنوات وسنوات. إن «جاستا» هو في أحد وجوهه استخفاف بالحلفاء، ونكران لجميل كل ما فعلوه للمصالح الاميركية.
ماذا ستفعل المملكة بعد صدور هذا القانون؟
لا تبدو الخيارات واسعة أمام القيادة السعودية. ثمة شعور متنام وعلني بتراجع الثقة بالولايات المتحدة. لكن هذا الشعور يقابله صمت صعب تجاه الخيارات الاستراتيجية. وبيان مجلس الوزراء السعودي لم يرَ في القانون سوى «مصدر قلق كبير للمجتمع الدولي، معرباً عن الأمل بأن تسود الحكمة لتجنب العواقب الوخيمة التي قد تترتب على سن القانون»، في حين رأى ولي العهد محمد بن نايف أن «بلادنا مستهدفة وسنحصن أنفسنا». إن المملكة قلقة لأنها «تشعر بالاستهداف»، خصوصاً أن «وهّابيتها» تحولت في الإعلام الغربي، وفي جلسات استماع في الكونغرس الاميركي، الى الاتهام بالتطابق مع وهابية «داعش» ومع ممارساته ودمويته.
إن سبب القلق السعودي من الاستهداف، والرد «الناعم» على صدور قانون «جاستا»، يعودان إلى أن المملكة لا تملك بدائل حقيقية ومقنعة لهذا التحالف مع الولايات المتحدة. فلا روسيا ولا الصين ولا الاتحاد الاوروبي يمكن أن يكونوا بدائل مناسبة. ولا أحد من هذه القوى لديه حتى الاستعداد ليلعب دور واشنطن نفسه مع المملكة. وبناءً على ذلك، ستعمل المملكة على محاولة حصر أضرار هذا القانون من دون أن تعرّض علاقتها مع الولايات المتحدة للاهتزاز. لكن ما يمكن تأكيده ومتابعته في الفترات المقبلة، أن ما حصل سيمهّد تدريجاً لبداية مرحلة جديدة في تاريخ العلاقة بين البلدين.
كذلك فإن السؤال نفسه مطروح على واشنطن أيضاً، إذ كيف ستتعامل مع حليف متهم قانونياً من جانبها برعاية الارهاب؟ وهل تستطيع أن تتعامل معه كما كان الأمر في السابق، وكأن شيئاً لم يكن؟ أم أن ما جرى هو مبرر لتراجع العلاقة التي اشتكى منها وانتقدها باراك أوباما في سنوات ولايته؟ وإذا تراجعت واشنطن عن هذا التحالف، فأي موازين قوى ستحكم الشرق الأوسط (من دون الحليف السعودي)، إذا كان الخيار الاستراتيجي الأميركي جاداً في تغيير أولوياته الى المحيط الهادئ؟
سؤال ما بعد «جاستا» سؤال معقد، ليس من السهل الإجابة عنه، سواء من جانب المملكة، أو حتى من جانب الولايات المتحدة نفسها التي أصدرت هذا القانون. وحتى لو تمت إعادة النظر في كيفية تطبيقه بعد الانتخابات الرئاسية، كما يعد بذلك بعض المسؤولين الأميركيين، فإن من المؤكد أن «رعاية» واشنطن لحلفائها باتت تثير القلق أكثر مما تدعو إلى الاطمئنان.
طلال عتريسي- الأخبار اللبنانية-