اتهام الإعلام الأميركي للسعودية بالإرهاب ليس جديداً، خصوصاً منذ أحداث ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١. الجديد في هذا المناخ «الاتهامي» هو قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، الذي تم تمريره العام الماضي في مجلس الشيوخ الأميركي من دون معارضة، ثم تمت المصادقة عليه لاحقاً من مجلس النواب الأميركي بالإجماع. صحيح أن القانون لا يذكر أحداث الـ11 من سبتمبر أو السعودية، إلا أنه يفتح الباب لقيام دعاوى قضائية ضد السعودية من أسر الضحايا، وهو ما حصل. معها نستطيع تصور إلى أي مدى ستصل الحملة الإعلامية «الاتهامية» تجاه السعودية.
لا شك في أن ثمة حملة إعلامية منظمة، و«بروبوغاندا» شرسة تمارس يومياً ضد السعودية، هدفها تثبيت هذه الصورة المشوهة في الأذهان، تكفي متابعة الصحف والقنوات الفضائية الغربية لكشف حجم الحملة، هذا في الشكل، أما في المضمون يبدو أن هناك عقلاً سياسياً أميركياً يبحث عن «ثمن» لقاء انسحاب واشنطن من منطقة الشرق الأوسط. الانسحاب المتدرج الذي بدأ من العراق في ٢٠٠٦، وصولاً إلى ذروته عند توقيع الاتفاق النووي الإيراني في ٢٠١٥.
بمعنى آخر، لماذا لم يُصدّر هذا العقل الأميركي قانوناً مشابهاً لقانون «جاستا» في مرحلة اندفاعة واشنطن العسكرية إلى المنطقة (احتلال العراق عام ٢٠٠٣)؟ ولِمَ لمْ يتحرك مجلسا النواب، والشيوخ الأميركي مجتمعاً يوم كان ينفث الإعلام الأميركي أقذر سمومه تجاه السعودية (هو الإعلام نفسه الذي حمّل السعودية أحداث 11 سبتمبر بعد ساعات فقط)؟ الأكيد أن الدافع وراء صدور القانون ليس ظاهرة الإرهاب وانتشاره، بل عملية ابتزاز سياسي. المقصود هنا أن الدول الكبرى عند انتكاس مشاريعها تبحث عن تقليل الخسائر، وهذا القانون صدر في مرحلة تراجع وانحسار للعم سام. فالعم سام يبحث عن «ثمن»!
الأثمان عند الدول الكبرى لها عملات عدة، منها الأمني والإعلامي والمالي، وفي ظل اقتصاد أميركي لم - وربما لن - يشفى من انهيار قطاعه المصرفي في ٢٠٠٨، فلا بأس من ثمن «مالي» تحديداً، يكون دفعة مقدمة لنفي تهمة الإرهاب، أو عربوناً مالياً لفتح صفحة جديدة للعلاقة الاستراتيجية بين السعودية وأميركا، العلاقة المعطلة حالياً، بحسب وصف ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مجلة «ذا فورين افيرز».
لا شيء يدعو إلى الاستغراب أو الاستهجان، هكذا عوّدنا العقل السياسي الأميركي، فثقافة الصفقات والمقايضات ثابتة في العمل السياسي الأميركي «الجفرسوني» (نسبة إلى توماس جفرسون أحد الآباء المؤسسين ومهندس التوسعة الأميركية، في عهده رئيساً تضاعفت مساحة أميركا مرتين! إذ أشرف على شراء أراضي ولاية لويزيانا الشاسعة من فرنسا).
ومن الذاكرة الحديثة صفقة إيران «كونترا» الشهيرة، والمعروفة بـ«إيران جيت». الصفقة التي عقدتها إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان مع «إيران الثورة» لتزويد طهران بأسلحة في مقابل الإفراج عن رهائن أميركان. أكثر من ذلك، في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون تقدم البيت الأبيض من خلال وسيط لأحد التنظيمات الإسلامية عارضاً مبلغاً مادياً كبيراً، ورفعه عن لائحة الإرهاب في مقابل تسليم «بندقيته» وتغيير موقعه السياسي. حسناً، ألم تكن دعاية الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي ترامب أنه رجل صفقات؟ فتش إذاً عن الصفقة.
«الصفقة»..
يبدو أن قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب وقودا لنار «البروبوغندا» الإعلامية، إلا أنه قد يكون المفتاح لإغلاق باب الدعاوى القضائية ضد السعودية في أميركا، هكذا يصف ديبلوماسي أميركي زار الرياض منتدباً من البيت الأبيض قبل خمسة أشهر قانون «جاستا». مهمة الديبلوماسي كانت زيارة المنطقة لإعداد تقدير موقف سياسي لتقديمه للإدارة الأميركية المنتخبة، يبدأ الديبلوماسي شرحه واصفاً أن السعودية مسؤولة عن جميع ضحايا الإرهاب وفي كل مكان على سطح هذا الكوكب، وأن الحملة الإعلامية الأميركية تسعى لتثبيت تهمة الإرهاب على السعودية في أذهان أسر الضحايا، وهذه المسؤولية تنبع من أن للسعودية دوراً اجتماعياً عالمياً، وبناء على ذلك عليها - أي السعودية - إنشاء صندوق مالي قيمته 25 بليون دولار لتعويض جميع أسر الضحايا من كل الجنسيات، 7 بليونات منها تذهب لذوي ضحايا أحداث 11 سبتمبر، عندها يمكن إلغاء القانون بحسب مادة من مواد قانونه، مشيراً إلى أن هذه المادة يتم تفعيلها من الكونغرس الأميركي عند تسلمه كتاباً من وزارة الخارجية الأميركية، تفيد فيها بأن واشنطن اتفقت مع الرياض على التعويضات، بعدها يتم إيقاف جميع الدعاوى!
لا يهم مبلغ الصفقة، فهو لا يخضع لمعايير محاسبية، المهم هو المقابل الذي سيقدمه العم سام للسعودية. بهذه الجملة تكتمل عناصر الصفقة من وجهة نظر الديبلوماسي الزائر.
قد يجادل البعض أن هذه الأفكار غير قابلة للتطبيق، وهذا صحيح، ويذهب الآخر إلى أن المصالح بين الرياض وواشنطن أكبر بكثير من بضعة بليونات من الدولارات، وهذا أيضاً صحيح، لكن ما يلفت الانتباه في طرح الديبلوماسي هو إلصاق المسؤولية لكل ضحايا الإرهاب في العالم بالسعودية، معتبراً أن السعودية فقط هي من تصنع الإرهاب، وهذا غير دقيق. والغريب هو أن فرضية دفع السعودية تعويضاً مالياً من شأنه معالجة مرض الإرهاب المتفشي عالمياً.
المال سيهمش الفكر الإرهابي، ولكن الصراع السياسي هو من يجعل الإرهاب عالمياً، ولكي لا نلدغ من الجحر مرتين - كما حرب أفغانستان - أي صفقة من هذا النوع لن تستطيع حماية نفسها إلا بتعريف كلمة الإرهاب، حتى وإن ادعينا أنه واضح بموجب القرارات الدولية، أصلاً الإرهاب وتعريفه حمال أوجه في العقل الأميركي، فالفرق بين القتل والقتال عنده يخضع للمصالح وليس بموجب القانون الدولي أو شريعة حقوق الإنسان.
نصل إلى أن معظم من خاض في موضوع قانون «جاستا» من كتاب أو مثقفين، كتابة أو نقاشاً على الإعلام، تناولوه من الناحية الأكاديمية أو الدينية، مع أهمية هذه المحاور إلا أنها تظل لأصحاب الاختصاص. فالخطاب السعودي غير الرسمي عجز حتى الآن عن طرح أفكار جديدة بدلاً من نقل التهمة إلى دول مجاورة. الخطاب نفسه الذي لم يلتقط التغيير في المصالح الأميركية، لا بل رد على اتهام واشنطن بتهمة الخيانة. الغرب يريد أن يسمع منطقاً من سياق تفكيره، أي على «قد عقله». الموضوع سياسة وليس مبادئ، وتهمة الإرهاب لن تختفي بالاتهام المضاد، وبالتأكيد الحملة الإعلامية ضد السعودية لن تتغير باستمرار خطابنا هذا. هنا نقول: إن قانون «جاستا» اتهام سياسي للسعودية.
طارق زيدان- الحياة السعودية-