عبد الرحمن الحبيب- الجزيرة السعودية-
صدر الأسبوع الماضي حكم قاضي محكمة مانهاتن، جورج دانييلز، بأنه «لا مسؤولية للحكومة السعودية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولا توجد أدلة عليه». وتساءل القاضي، بشجاعة قانونية، إن كان يفترض تحميل السعودية مسؤولية كل عمل إرهابي يرتكبه تنظيم «القاعدة». وذلك رداً على دعوى التعويضات ضد المملكة من شركات التأمين لأهالي ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001.
السؤال الأساسي هنا: هل تخلصت السعودية من قانون جاستا، أو من ملاحقات قانونية أخرى؟ الإجابة على الجزء الأول من السؤال: نعم، السعودية انتهت تماماً من جاستا وتم فك ارتباطه نهائياً بالسعودية، وقد يرتبط بدول وجهات أخرى، تملك أجهزة الأمن الأميركية أدلة على تورطها.
إنما إجابة الجزء الثاني تحتاج نقاش، رغم أنه من المستبعد حصوله! فثمة نمط خاص في منظومة القضاء الأمريكي يمكن تسميته مجازاً «مافيا» التعويضات. فبعد التخلص التام من جاستا (وهو اختصار لقانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»)، هل يمكن إعادة طلب التعويضات عبر وسائل أخرى، خاصة أن المملكة سبق أن بُرأت بوضوح، ومع ذلك رفعت الدعوى بعد ظهور جاستا؟
فقبل الدعوى الأخيرة وقبل قانون جاستا، سبق للتقرير النهائي للجنة التحقيق عن الهجمات أن برّأ الحكومة السعودية تماماً، وخلص إلى أنه «لا يوجد دليل على أن الحكومة السعودية كمؤسسة أو كبار المسؤولين السعوديين موّل أو دعم بأي شكل من الأشكال الهجمات، وجميع الأدلة أكدت براءة السعودية تماماً» حسب وكالة الأنباء الأمريكية أسوشيتد برس. الشيء ذاته أكدته نتائج تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي والاستخبارات الأميركية. كذلك، سبق لقاضي محكمة مانهاتن نفسه، دانييلز، أن رفض الادعاءات ضد السعودية عام 2015. حتى ذلك الوقت اعتبرت المسألة منتهية، فلا علاقة للحكومة السعودية بهذا الحادث الإرهابي.
لكن البعض عاد ودندن بعد نشر مكتب التحقيقات للصفحات الثامن والعشرين السرية التي تتضمن اسم السعودية في تقرير لجنة التحقيق بأحداث 11 سبتمبر التي أفرج عنها الكونجرس. أهم جملة زعم البعض أنها اتهام للسعودية تذكر نصاً: «كان بعض الخاطفين المشاركين بهجمات 11-9 خلال تواجدهم بالولايات المتحدة على صلة بأشخاص ربما مرتبطين بالحكومة السعودية وحصلوا على دعم أو مساعدة». طبعاً، هذه الـ«ربما» تثير السخرية قانونياً، ولا يعترف بها أي قاض وهذا ما حصل. وبالنسبة للصفحات الثمان والعشرين، فليس هناك أفضل من رئيس الاستخبارات الأمريكية، آنذاك، برينان الذي تصدر مؤسسته مثل تلك التقارير، فهو كرر مراراً براءة السعودية وأن هذا التقرير يبرؤها ولا يتهمها.
مع كل هذه التأكيدات الدامغة لبراءة المملكة، أقيمت الدعوى ضدها! فما الذي دفع بعض عائلات ضحايا الهجمات إلى الاعتقاد بأن السعودية متورطة به؟ هناك خليط من المسببات تبدأ بلعبة التأمينات والابتزاز، مروراً بنظرية المؤامرة، وانتهاءً بالبحث عن شعبية في انتخابات الكونجرس الذي أصدر قانون جاستا.
في لعبة التأمينات والابتزاز تسعى ما أشرنا إليه بمافيا التعويضات والتأمينات لاستغلال الحادث الإرهابي للتكسّب من دولة غنية بزعم علاقتها به بأي شكل من الأشكال. ولكن على ماذا يستندون؟ على نظرية المؤامرة. فقد أوضحت المجلة الأمريكية «فورين بولسي» أن السعودية وقعت ضحيّة نظرية المؤامرة المضللة إعلامياً وقع فيها إعلاميون وكُتَّاب وحتى أعضاء من الكونجرس، خاصة عقب صدور كتاب «اليوم الحادي عشر»، لمؤلفيه البريطانيين أنتوني سامرز وروبين سوان، الذي يزعم تورّط الحكومة السعودية في هجمات 11 سبتمبر.
هذا الزعم يستند على سببين رئيسيين: أن 15 منفذًا من أصل 19 سعوديون، وأن زعيم القاعدة أسامة بن لادن عضو في العائلة السعودية المالكة. الأول استنتاج وليس دليلاً، والثاني غير صحيح البتة. وحتى على مستوى الاستنتاج فلا يوجد «أي منطق يفسر رغبة السعودية بمهاجمة أمريكا في ظلّ علاقاتها الطويلة والوطيدة مع واشنطن، وبأسرة الرئيس الأمريكي آنذاك» حسب تعبير المعهد الكندي «جلوبال سيرتش» للأبحاث الإستراتيجية.
أما تأثير انتخابات الكونجرس، فقد كانت قبيل التصويت على جاستا، فالعضو المنتخب لم يكن يريد أن يظهر ضد رغبة أهالي الضحايا وكأنه ضد الشعب الأمريكي ويفقد قاعدته الشعبية. وهذه أشار لها أوباما، قائلاً: إذا نظر إليك بوصفك قد صوت ضد عائلات 11-9 قبيل الانتخابات، فلن يكون مفاجئاً القول إنه تصويت يصعب على الناس اتخاذه، ولكنه الصواب الذي ينبغي فعله.»
في كل الأحوال، من المستبعد أن تلجأ شركات التأمين والتعويض لإعادة اللعبة بعد تكرار فشلها خاصة مع نجاح الدبلوماسية السعودية بامتياز في مواجهتها. وهنا يمكننا الاطمئنان بمهارة العمل الدبلوماسي السعودي الذي تحرك بطريقة هادئة حصيفة مع الجهات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وأيضاً مع المؤسسات المالية.. كالتفاهم مع كبار قادة الكونجرس مثل جون مكين، والتفاهم مع الإدارة الأمريكية.. وأخيراً، دفوعات فريق الدفاع عن السعودية، الذي فنّد أربعة آلاف صفحة قدّمها الخصوم، بأن الاستنتاجات والتكهنات والشائعات ليست أدلة؛ مشدداً على أن جاستا لا يسمح باستمرار القضية من دون أدلة. هذا العمل الفعَّال الهادئ لم يتأثر بالاستفزازات الشعبوية التي ظهرت من منفعلين في الإنترنت مطالبة بتصعيد الموقف مع أمريكا ومجابهة جاستا بطريقة عدائية..